قوله تعالى: ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) هذه تسلية للرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين ،سواء في ذلك المؤمنون في زمن النبوة أو المؤمنون في كل زمان ومكان .عن ذلكم إيناس بالغ ومؤثر من الله لعباده المؤمنين الذين يواجهون الأهوال والصحاب ،ويصطدمون في طريقهم بالمعوقات والمثبطات والعراقيل التي يصطنعها المجرمون الكافرون ،سواء من أهل الكتاب أو المشركين أو الملحدين والمرتدين والمنافقين ،إن ذلكم إيناس رباني حكيم يواسي به الله عباده المؤمنين الصالحين ؛فتهون أمامهم الملمات والنوائب ،وتصغر في حسهم العقبات والشدائد ،يواسيهم الله ويؤنسهم في كلماته العجيبة الباهرة النافذة .كلماته المحببة المصطفاة وهي تسكب في أذهان المسلمين وفي روعهم وقلوبهم فيضا من القناعة والسكينة والراحة ،وتنشر في أعماقهم الرضا بقدر الله الحكيم ،والزهد في مباهج هذه الدنيا الفانية وهو ما يتضح في قوله سبحانه: ( كل نفس ذائقة الموت ) من الذوق وهو اختبار الطعم .والمقصود هنا أن يذوق المرء هذه الجرعة المريرة الرهيبة .وهي جرعة الموت المحدق .
والحقيقة الكونية المذهلة أن الناس كافة لا مناص في حقهم من معاينة الموت .فما من إنسان حيثما كان وكيفما كان لا جرم أنه مفض إلى الأجل المحتوم ... الموت !وهذه حقيقة أو نهاية لا مفر منها البتة .فلسوف تفجأ هذه كل الأحياء من البشر سواء فيهم العظماء والحكماء والسلاطين ،أو كانوا من الضعاف والمحكومين والعالة ،أو كانوا من الصغار أو الكبار أو اليافعين ،أو كانوا من المؤمنين والصالحين والأبرار ،أو من المضلين والأشقياء والفجار .إنهم جميعا ملاقوا مصيرهم الذي لا يتخلف .مصير الرحيل عن هذه الدنيا إلى حيث المساءلات والمكاشفات والحساب .
وقوله: ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) يُوفى المؤمنون الصالحون أجورهم على ما قدموه من طاعات وأعمال صالحات يوم القيامة وليس في الدنيا .فإنه لا قيمة ولا وزن لكل مكارم الدنيا و درجاتهما وخيراتها .وإنما الأجر الثابت الباقي لهو في الآخرة حيث الخير والفضل والجزاء السرمد ،وحيث النعيم المقيم الواصب .
وقوله: ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) زُحزح من الزحزحة وهي التنحية والإبعاد .والزحزحة في الأصل: تكرير الزح ،وهو معناه الجذب بعجلة .وزحه ،أي نحاه عن موضعه وجذبه في عجلة{[651]} .
قوله: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) المتاع: المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج .وجمعه أمتعة .وبالضم معناه: الدول والسقاء والزاد القليل والبلغة وما يتمتع به .والمقصود بالمتاع هنا: ما ينتفع به الإنسان ثم يزول فلا يبقى{[652]} .
والغرور ،بالضم وهو الأباطيل والخداع .وهو جمع ومفرد .الغار بالتشديد ،ومعناه الغافل اغتر بالشيء ،أي خدع به .غره غرور ،أي خدعه .والغرور بالفتح معناه الشيطان{[653]} .
ذلك هو شأن الدنيا كما وصفها الله على أنها متاع الغرور .فهي ما يستمتع به المرء في هذه الحياة القصيرة من لذة وزينة ،ما بين طعام يأخذ منه بلغته ،أو شراب يحتسيه فيطفئ غلته ،أو لباس يحويه فيستر جسده وعورته ،إلى غير ذلك من وجوه الملذات والشهوات التي تمضي سراعا والتي تمر مرّ السحاب أو مرّ الزمن بساعاته المتتابعة السريعة .لا جرم أن ذلك هو الغرور ،أي الخداع بذاته ،الخداع الذي يغتر به الإنسان وهو يطوقه الوهم وإعجابه بنفسه ،وتغشى قلبه وفكره سحائب مركومة كثاف من الغفلة والنسيان والاغترار حتى إذا دهمته فاقرة الموت أيقن أن الدنيا سراب وأن كل شيء إلى زوال وتباب .
وبعد ذلك نعرض لجملة أحكام سريعة عن الميت بدءا باحتضاره حتى الدفن في الثرى ،فنقول: يستحب أن يلقن الميت المسلم عند الاحتضار شهادة أن لا إله إلا الله ؛وذلك للخبر:"لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله "{[654]}لتكون هذه آخر كلامه من الدنيا فيختم له بالشهادة .ويستحب أن يقرأ عنده في هذه الساعة سورة"يس "؛وذلك للخبر:"أقرؤوا يس على موتاكم "{[655]} فإذا قضي وأسلم الروح لباريها كان على الناس ممن حوله إغماض عينيه ،وإعلام الصلحاء من المسلمين بموته .ثم يؤخذ بغسله وهو سنة لجميع المسلمين عدا الشهيد في المعترك فإنه لا يغسل .وقيل: غسل الميت واجب ،والأول المشهور .
أما التكفين فهو واجب بغير خلاف .وعلى هذا يكفن الميت من ماله فإن لم يكن له مال قام بتكفين من تلزمه نفقته حال حياته وإلا كفن من بيت المال .
والأصل في وجوب التكفين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية وكذلك كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه ،وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه .فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر "واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنه لا يغطي رأسه ولا يمس طيبا .وهو قول الشافعية ،خلافا للحنفية والمالكية إذ قالوا: المحرم كغير المحرم في تغطية رأسه وتطييبه .
ويستحب الإسراع في المشي مع الجنازة .وصفة الإسراع ما كان فوق السجية قليلا ،والعجلة أفضل من الإبطاء .ويكره الإسراع بما يشق على ضعاف الناس ممن يتبعها .وقد سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن صفة المشي مع الجنازة فقال:"أسرعوا بجنائزكم فإنما وهو خير تقدمونه إليه ،أو شر تلقونه عن رقابكم "{[656]} .
أما حكم الصلاة على الجنازة فإنها واجب على الكفاية كالجهاد وصفتها أن يكبر المصلي أربع تكبيرات غير تكبيرة الإحرام ،وهو المشهور من أقوال الفقهاء .وأصل ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم"نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات "{[657]} .
أما دفن الميت في التراب فهو واجب بالإجماع .ودليل ذلك قوله تعالى: ( ألم تجعل الأرض كفانا أحياء وأمواتا ) وقوله تعالى: ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه ) .
على أنه يكره تجصيص القبور .وهو قول الشافعية والمالكية خلافا للحنفية فقد أجازوا ذلك ،إلى غير ذلك من أحكام الموتى مما يقع تفصيله في مظانه من كتب الفقه{[658]} .