{ كل نفس ذائقة الموت وغنما توفون أجوركم يوم القيامة} .
ذكر سبحانه وتعالى هذه الكلية الثابتة لبيان الجمع الحاشد يوم القيامة الذي يتقدم فيه كل امرئ بما قدم من عمل ، إن خيرا فجزاؤه خير ، وإن شرا فجزاؤه شر ، وهنا إشارات بيانية رائعة ككل إشارات القرآن ؛ وذلك لأنه عبر عن إقبال الموت بذوقه ، للإشارة إلى انه عند ذوق الموت سيكون المذاق إما مرا حنظلا يومئ إلى ما يتبعه من عقاب ، وإما ان يكون المذاق حلوا هنيئا ، فيكون إيماء إلى ما يكون يوم القيامة من نعيم مقيم ، والتعبير عن حلول الأجل في الدنيا بذوق الموت فيه استعارة بتشبيه الموت عند إقباله الرهيب او الرغيب بالأمر الذي يذاق فيؤلم ، او يذاق فيسعد .
وهنا إشارة بيانية أخرى رائعة هي انه أسند ذوق الموت إلى النفس ، ولم يسنده إلى الشخص ؛ لأن النفس روح ، والشخص جزءان جسم ونفس ، وإن النفس تبقى بعد مفارقة الجسم ، فهي التي تذوق الموت ، كما ذاقت الحياة ، فإسناد الذوق إليها باقية ، وقد تغيرت حياتها من حال إلى حال ، فبعد ان كانت في غلاف من جسم من الطين ، قد تجردت أبدا منه حتى تلتقي به يوم البعث والنشور .
وبعد ان تذوق النفس طعم تلك النقلة من متاع الدنيا الزائل إلى الآخرة ، يكون الجزاء من نعيم او جحيم ، ولذا قال سبحانه:{ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} .
والأجر هو العطاء خيرا او شرا ، والقيامة هي قيام الساعة لرب العالمين ، وتقويم أعمالهم من خير وشر بالميزان الدقيق ، والحساب الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . فيوم القيامة هو الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين ، وتقوم أعمالهم من بين أيديهم وتنطق بها جوارحهم ، وتقوم تلك الأعمال بقيمتها الحقيقية ، ويذهب الزيف ولا يكون إلا الحق الخالص ، ومعنى توفية الأجور إعطاؤها كاملة لا نقص فيها ، وإذا قلنا إن الأجر هو العطاء فإن مجازاة المسئ بقدر إساءته هو العطاء العدل .
والخطاب هنا للأشخاص لا للنفوس وحدها ، فذوق الموت للنفوس ، ولكن الجزاء للأشخاص إذ تلتقي الجسوم بالنفوس ، ولذلك خاطب الأشخاص فقال سبحانه:{ وغنما توفون أجوركم} .
وإن السياق الذي ذكرنا عليه أكثر المفسرين وهو ان توفية الأجر تشمل الثواب والعقاب ، ولكن أرى ان روح الآية وما اقترن بها من بعد يدل على ان الجزاء هنا هو العطاء الصرف بنعيم يوم القيامة لمن يستحقونه ، فالخطاب للمؤمنين تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عند تكذيب المكذبين ، ولذا قال سبحانه عن أول عطاء هو البعد عن النار ، فقال سبحانه:{ فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز} .
الزحزحة عن النار الإبعاد عنها ، والتنحية عنها ، وهو تكرار الزح بمعنى الإبعاد ، والمعنى ان من أبعد عن النار بعد تكرار التنحية عنها فقد فاز فوزا مطلقا ، والنص يشير إلى ان أعمال الإنسان ترديه ولا تنجيه ، وانه لكي يبعد عن النار ويتجنبها يكون كالمحتاج لمجهود ، وتكرر الزح والتنحية كشيء ثابت ملازم لها ، لا يبعد عنها إلا بمجهود ، وذلك تصوير دقيق لعفو الله ورحمته وغفرانه ، وان المرء لا يبعد عن النار إلا بعد تكرار الرحمة والمغفرة ، وان البعد عن النار ثم دخول الجنة هو اكبر الفوز ، وهذا كله على أساس ان الزحزحة والتنحية في الآخرة التي هي دار الجزاء ، ويصح ان يكون المعنى في الدنيا ، بالأخذ في أسباب التوقي من النار ، ودخول الجنة ، ويكون السياق هكذا:من غالب شهواته وجاهد أهواءه وإنها لصعبة المراس تحتاج إلى صبر وضبط ، فإنما يزحزح نفسه عن النار بتوقي أسبابها ، ويدخل نفسه الجنة ، واتخاذ الوسائل الموصلة إليها ، فالزحزحة هي جهاد الأهواء التي هي أسباب النار ، وليس ذلك التفسير ببعيد ، وإن كان الأول أوضح وأبين .
ولقد بين سبحانه ان سبب العذاب هو الغرور في الدنيا ، ولذا قال سبحانه وتعالى:{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} .
في هذا النص الكريم قصر الحياة الدنيا على حال واحدة ، هي انها متاع يستمتع به الإنسان ويغريه حتى ينسيه متاع الآخرة ، إن استولى عليه واستغرق حسه ونفسه ، والمعنى ليست هذه الحياة القريبة منا التي نشاهدها ونراها ، وهي في ذاتها الحد الأدنى للحياة ، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها الذي يظن انها كل شيء ، وأما من يؤمن بأنها قنطرة الآخرة ، فإنها تكون جهاد النفس ، والسيطرة على الأهواء ، ولقد قال الزمخشري في تفسير متاع الدنيا:"شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام{[640]} ، ويغره حتى يشتريه ، ثم يبين له فساده ورداءته ، والمدلس هو الشيطان الغرور ، وعن سعيد بن جبير:إنما هذا لمن آثرها على طلب الآخرة".
اللهم لا تغرنا بهذه الدنيا ، ووفقنا لأن نطلب ما عندك ، وامنحنا يا ذا الجلال ولإكرام رضوانك ، فهو أعلى ما يبتغيه المؤمن ؛ إذ رضوانك أكبر من كل ما في الوجود يا رب الوجود .