التّفسير:
الموت وقانونه العام:
تعقيباً على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إِلى قانون «الموت » العام وإِلى مصير الناس في يوم القيامة ،ليكون ذلك تسلية للنبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين ،وتحذيراًكذلكللمعارضين العصاة .
فهذه الآية تشيرأوّلاإِلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول: ( كل نفس ذائقة الموت ) .
والناس ،وإِن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت ،ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إِن حاولنا تناسيها والتغافل عنها ،فهي لا تنسانا ،ولا تتغافل عنّا .
إِنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة ،ولابدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد ،ولا يكون أمامهحينئذإِلاّ أن يفارق هذه الحياة .
إِن المراد من «النفس » في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح ،وإِن كانت النفس في القرآن تطلق أحياناً على خصوص «الرّوح » أيضاً .
والتعبير بالتذوق إِشارة إِلى الإِحساس الكامل ،لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده ،ولكن كل هذه لا يكونوالأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء ،نعم إِلاّ أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإِحساس الكامل ،وكأن الموتفي نظام الخلقةنوع من الغذاء للإِنسان والأحياء .
ثمّ تقول الآية بعد ذلك ( وإِنّما توفون أجوركم يوم القيامة ) أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب ،وبالتالي الجزاء على الأعمال ،فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل .
وعبارة «توفون » التي تعني إِعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إِعطاء الإِنسان أجر عملهيوم القيامةوافياً وبدون نقيصة ،ولهذا لا مانع من أن يشهد الإِنسانفي عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرةبعض نتائج عمله ،وينال قسطاً من الثواب أو العقاب ،لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل .
ثمّ قال سبحانه: ( فمن زحزح عن النّار وادخل الجنّة فقد فاز ) .
وكلمة «زحزح » تعني محاولة الإِنسان لإِخراج نفسه من تحت تأثير شيء ،وتخليصها من جاذبيته تدريجاً .
وأمّا كلمة «فاز » فتعني في أصل اللغة «النجاة » من الهلكة ،ونيل المحبوب والمطلوب .
والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة ،ولقوا ما يحبونه ،وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها ..حقّاً أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإِنسان إِلى نفسها ،وهي على درجة كبيرة من الجاذبية .
أليس للشهوات العابرة ،واللذات الجنسية الغير المشروعة ،والمناصب ،والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية ؟؟
كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإِنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجاً ،وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف .
أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها ،وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها ،وبلغوا بها إِلى مرتبة «النفس المطمئنة » كانوا من النّاجين الواقعيين ،الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة .
ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية: ( وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور ) .
وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول: إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإِنسان من بعيد ،فإِذا بلغ إليها الإِنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدهاعلى الأغلبفراغاً في فراغ وخواء في خواء ،وما متاع الغرور إلاّ هذا .
هذا مضافاً إلى أن اللذَائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة ،وخالية من كل ما يكدرها ،حتى إذا اقترب إليها الإِنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب ،وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية .
كما أنّ الإِنسان ينسىفي أكثر الأحيانطبيعته الفانية ،ولكنه سرعان ما ينتبه إِلى أنّها سريعة الزوال ،قابلة للفناء .
إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيراً ،والهدف منها جميعاً شيء واحد هو أن لا يجعل الإِنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير ،ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والارتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية ،والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإنساني ،وأمّا الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إِلى التكامل الإِنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط ،بل هو ضروري وواجب .
سبب النّزول:
عندما هاجر المسلمون من مكّة إِلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم ،راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إِلى ممتلكاتهم ،وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها ،وإِيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإِيقاع فيه بالهجاء والاستهزاء .
وعندما جاؤوا إِلى المدينة ،واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة ،خاصّة «كعب بن الأشرف » الذي كان شاعراً سليط اللسان ،فقد كان كعب هذا يهجو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن .
وقد بلغت وقاحته مبلغاً دفعت بالنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إِلى أنْ يأمر بقتله ،فقتل على أيدي المسلمين غيلة .
والآية الحاضرةحسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرينتشير إِلى هذه الأُمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة .