قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( 20 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
المصدر من{أن} والفعل في موضع رفع مبتدأ ،والجار والمجرور قبله خبر .والتقدير: وخلقُكم من تراب من آياته{[3600]} .
يعني: ومن آيات الله ودلالاته على ربوبيته ووحدانيته وكمال قدرته وعظمته{أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} أي خلق أصلكم وهو أبوكم آدم{مِّن تُرَابٍ} وأنتم فرع آدم ،والفرع كالأصل{ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} وذلك بعد أن مررتم في جملة مراحل وأطوار ،واحدا عقب الآخر ،بدءا بالنطف في الأرحام ،ثم المُضَغ ،ثم العلق ،ثم العظام واكتساؤه باللحم ،ثم النفخ لبعث الروح ،ثم الخروج إلى الدنيا أطوار ،بدءا بالرضاع ،ثم الفطام ،ثم اليفاع ،ثم الشباب فالشيخوخة والاكتهال .ويتخلل ذلك سعي وكدّ ونشاط وتعامل ونَصَب وصراع مع الباطل وأهله .
ذلك هو الإنسان المفكر والساعي والمنتشر ؛فهو أوله نطفة مهينة مستقذرة ،ثم تقلّب في مراحل شتى من التطور المتعاقب حتى صار إنسانا سويا قويا مكتمل البنية والإرادة والفهم .وصار ذا بصر وتفكير وتدبير ودهاء وحيلة ،فيقطع الأمصار ويجوب البحار والفضاء مسافرا طمعا في كسب أو تحصيل .وبات يعقد المعاهدات والمؤامرات في وضح النهار أو بهيمة الظلمات .أفلا يدل ذلك على قدرة الخالق العليم .
والأعجب من ذلك أن تندرج كل هذه المعاني الكبيرة والكثيرة والمختلفة في هذه الآية القصيرة ذات الكلمات المعدودة{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} آية وجيزة تعرض لحال الإنسان كله بدءا بكونه نطفة في رحم أمه وانتهاء بكونه بشرا ذا قوة وإرادة وصورة حسنة ،يسعى جادا منتشرا في الأرض .وهذا واحد من الأدلة الظاهرة على إعجاز القرآن وعلى أنه حق وأنه الخالق الموجد القادر .