التّفسير
آيات الله في الآفاق وفي الأنفس:
تحدثت هذه الآياتوبعض الآيات الأخر التي تليهاعن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد ،وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود ،وهي تكمل البحوث السابقة ،ويمكن القول بأن القسم المهم بشكل عام من آيات التوحيد في القرآن تمثله هذه الآيات !
هذه الآيات التي تبدأ جميعها بقوله تعإلى: ( ومن آياته ) ولها وقع خاص ولحن بليغ جاذب وتعبيرات مؤثرة وعميقة ،مجموعة من سبع آيات ،ستٌ منها متتابعات ،وواحدة منفصلة «وهي الآية السادسة والأربعون » .
هذه الآيات مقسمة تقسيماً طريفاً من حيث «آيات الآفاق » و «آيات الأنفس » إذ تتحدث ثلاث منها عن آيات الأنفس ( دلائل الخالق في وجود الإنسان نفسه ) وثلاث منها عن آيات الآفاق ( دلائل الخالق خارج وجود الإنسان ) وواحدة من هذه الآيات تتحدث عن الآيات في الأنفس وفي الآفاق معاً .
وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الآيات التي تبدأ بهذه العبارة: ( ومن آياته ) مجموعها إحدى عشرة آية فحسب ،في سائر سور القرآن ،سبع منها في هذه السورة ،واثنتان في سورة فصلت هما «الآية 37 والآية 39 » وآيتان أُخريان في سورة الشورى هما الآية 29 والآية 32ومجموعها كما ذكرنا آنفاً إحدى عشرة لا غير .وهي تشكل دورة متكاملة في التوحيد .
ويجدر التنبيهُقبل الدخول إلى تفسير هذه الآياتعلى هذه «اللطيفة » وهي أن ما أشار إليه القرآن في هذه الآيات ،وإن كانت تبدو للنظر محسوسة وملموسة ،يمكن أن يدركها عامّة الناس ،إلاّ أنّه مع تطور العلم وتقدمه تبدو للبشر لطائف جديدة في هذا المجال ،وتتّضح للعلماء أُمور ذات أهمية كبرى ،وسنشير إلى قسم منها خلال تفسيرنا لهذه الآيات إن شاء الله .
ويتحدث القرآن هنا أوّلا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهية له ،وأهمهما أيضاً ،فيقول: ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون ) !
في هذه الآية إشارة إلى دليلين من أدلة عظمة الله .
الأوّل: خلق الإنسان من التراب ،وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان ،أي آدم( عليه السلام ) ،أو خلق جميع الناس من التراب ،لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان ،جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر !
الثّاني: كثرة النسل «الآدمي » وانتشار أبناء «آدم » على سطح المعمورة ،فلو لم تُخلق خصوصية التناسل في آدم ،لانطوى نسله من الوجود بسرعة !.
تُرى أين التراب وأين الإنسان بهذا الهندام والرشاقة ؟!
فلو وضعنا خلايا وأستار العين التي هي أدق من ورق الزهور وألطف وأكثر حساسية ،وكذلك الخلايا الدقيقة للدماغ والمخ إلى جانب التراب وقارناهما بالقياس إلى بعضهما البعض ،نعرف حينئذ كم لخالق العالم من قدرة عجيبة ،بحيث أوجد من مادة كدرة سوداء لا قيمة لها هذه الأجهزة الظريفة والدقيقة القيّمة .
فالتراب ليس فيه نور ،ولا حرارة ،ولا جمال ،ولا طراوة ،ولا حس ،ولا حركة ومع ذلك فقد أضحى عجينة الإنسان ولها جميع هذه الصفات ،فالذي أوجد من هذا الموجود الميت التافه موجوداً حيّاً عجيباً ،لحقيق بكل حمد وثناء على هذه القدرة الباهرة والعلم المطلق ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
والآية محل البحث تبيّن ضمناً هذه الحقيقة ،وهي أنّه لا تفاوت بين بني الإنسان ،ويعود جذرهم إلى شيء واحد ،وأصل واحد وهو التراب وبالطبع فنهايتهم إلى ذلك التراب أيضاً .
وممّا ينبغي الالتفات إليه ،أن كلمة «إذا » تستعمل في لغة العرب في الموارد الفجائية ولعل هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ الله له القدرة البالغة على أن يخلق مثل آدم أعداداً هائلة بحيث ينتشر نسلها في فترة قصيرةفجأةًويملأ سطح الأرض ..ويكون مجتمعاً إنسانيّاً كاملا .