وفي الآية التالية عودة إلى المعاد ،ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر ،فيقول: ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ) .
أي إنّ ميدان «المعاد » وميدان «نهاية الدنيا » المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت » والآخر «خروج الميت من الحي » يتكرران أمام أعينكم ،فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً ،ويعود الناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة أُخرى !
أمّا التعبير ب «يخرج الحي من الميت » المستعمل للأراضي الموات ،فقد ذكره القرآن مراراً في مسألة المعاد وواضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء ،فلا خضرة ولا أزهار تضحك ولا براعم تتفتح ،ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء ،تدبّ الحركة في الأرض ،وتنمو الخضرة في كل مكان ،وتتبسّم الأزهار وتنمو البراعم على الأغصان وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا .
وأمّا مسألة «إخراج الميت من الحيّ » فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً ،فدائماً تموت الأشجار على الأرض وتتبدل إلى أخشاب ،ويفقد الإنسان والحيوان حياتهما ،ويتبدل كل منهما إلى جسد هامد لا روح فيه .
وأمّا ما يتعلق ب «إخراج الحيّ من الميت » ففسّره بعضهم بخروج الإنسان والحيوان من النطفة ،وقال بعضهم: بل المراد منه تولد المؤمن من الكافر ،وقال بعضهم: المراد منه تيقظ النائمين والراقدين .
والظاهر أنّه ليس أيّاً من هذه المعاني هو المعنى الأصلي ،لأنّ النطفة بنفسها موجود حي ،ومسألة «الكفر والإيمان » هي من بطون الآية ،لا من ظواهر الآية ،وأمّا موضوع التيقظ والنوم فهو أمر مجازي ،إذ ليس النوم والتيقظ موتاً وحياة حقيقيين .
إنّما ظاهر الآية هو أنّ الله يخرج الموجودات الحية دائماً من الموجودات الميتة ،ويبدل الموجودات الهامدة التي لا روح فيها إلى موجودات حيّة .
وبالرغم من أنّه من المسلّم بهفي العصر الحاضر على الأقلأنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليوميّة أن موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت ،بل تتولد الموجودات الحية دائماً من البيوض أو البذور أونطف الموجودات الحية الأُخرى ،غير أن الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار ،ولم يوجد عليها أي موجود حي ،ثمّ وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلمحتى الآنبصورة دقيقة ،تولدت الموجودات الحية من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة ..لكن هذا الموضوع وفي الظروف الفعلية للكرة الأرضية .وحيث أنّ العلم البشري لم يتوصل إليه ،فلم يشاهد هذا الموضوع ( وبالطبع يحتمل أن تتحقق هذه القفزة الكبرى في أعماق البحار والمحيطات في بعض الظروف الحالية ) .
لكن الذي نلمسه وندركه ،هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحية وتكسى ثوب الحياة !فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية ،لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حيّ وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه ،كما يتبدل الطفل الرضيع عن هذا الطريق إلى شاب قوي متين .
أليس هذا إخراج الحياة من قلب الموت ،أو «الحي من الميت » ؟!
فعلى هذا يمكن القول بأن في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ،وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء الموتى في العالم الآخر .
وبالطبع فإنّ الآية الآنفة من جهة البعد المعنوي لها تفاسير أخر ..منها تولد المؤمن من الكافر ،وتولد الكافر من المؤمن ،والعالم من الجاهل ،والجاهل من العالم ،والصالح من المفسد ،والمفسد من الصالح ،كما أشير إلى كل ذلك في الروايات الإسلامية أيضاً .
ويمكن أن تكون هذه المعاني من بطون الآية ،لأنّنا نعرف أنّ آيات القرآن لها ظاهر وباطن ،كما يمكن أن يكون للموت والحياة معنى جامع واسع يشمل الجانب المادي والجانب المعنوي .
هذا وقد جاء في رواية عن الإمام موسى بن جعفر( عليه السلام ) في تفسير الآية ( يحيي الأرض بعد موتها ) ما يلي: «ليس يحييها بالقطر ،ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل ،فتحيي الأرض لإحياء العدل ولإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »{[3209]} .
وواضح أنّ مراد الإمام( عليه السلام ) أن معنى الآية لا ينحصر بنزول الغيث ،ولا ينبغي تفسير الآية بالغيث فحسب ،لأنّ الإحياء المعنوي للأرض بالعدل أهم من إحيائها بالغيث عند نزوله .