قوله:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ( 72 ) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
اختلف أهل التأويل في المراد بالأمانة على عدة أقوال ،منها: أن الأمانة هي الفرائض التي افترضها الله على العباد .وقيل: المراد بذلك أمانات الناس .وقيل: المراد بذلك الأمانة في الصلاة ،والأمانة في الصوم ،والأمانة في الحديث ،وأشد ذلك الودائع .وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الأمانة يراد بها جميع معاني الأمانات في الدين والدنيا .سواء في ذلك الطاعات والعبادات وسائر الفرائض الدينية والأحكام الشرعية من صلاة ،وزكاة ،وصيام وحج ،وجهاد إلى غير ذلك من أمور الدين والعبادة ،وكل ما أنيط بالمسلم من واجبات وحقوق للآخرين كالديون والودائع وصلة الأرحام والبر بأولي الجوار والقربى .إلى غير ذلك من وجوه الأمانات التي يناط بالمسلم رعيها وصونها ،كحفظ الأوطان ودرء الشر والأذى عن المسلمين في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وكراماتهم .
ومن جملة الأمانات حفظ الضروريات الخمس أولها: العقل .وهو لدى صاحبه أمانة .فما ينبغي أن يفرط فيه بتجهيل أو تغرير أو تحذير بمسكر .
وثانيها: النسل ،أو الذرية .وهم أمانات عظام يناط بالوالدين رعيهم وتنشئتهم على الحق والدين وحسن الخلق .
وثالثهما: النفس .وهي أمانة أساسية عظمى تنشر في الإنسان الحياة والحركة وبغيرها يصير الإنسان خامدا مع الخامدين .فما ينبغي الاعتداء على النفس .بإزهاق أو إضرار .قال سبحانه:{ولا تقتلوا أنفسكم} .
ورابعها: المال .وهو أمانة في عنق المرء ليس له أن يُفرّط فيه بل يُنمّيه بالأسباب الحلال ثم يصرفه وينفقه في وجوهه المشروعة ،وإلا كان مفرِّطا ظلوما .
وخامسها: الدين .وهو جماع كل الخير ،ويناط بالمسلم أن يرعاه ويحافظ عليه وأن يدرأ عنه كل ظواهر التشويه والتحريف والفتنة وما يُفترى عليه من الأباطيل .
وقوله:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} أي عرض الله الأمانة – على اختلاف صورها ومعانيها وبالغ شأنها وجليل قدرها – على السماوات والأرض ،فإن أدوها أثابهم الله جزيل الثواب وإن ضيعوها عذبهم ،فكرهوا ذلك مشفقين ألا يقوموا بها قياما كاملا .
وقيل: إن الله عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت خيرا .وإن ضيعت عوقبت .فأبت حملها إشفاقا ألا تقوم بما يجب عليها ،ثم حملها الإنسان إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بربه .