قال العوفي ، عن ابن عباس:يعني بالأمانة:الطاعة ، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم ، فلم يطقنها ، فقال لآدم:إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال:يا رب ، وما فيها ؟ قال:إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . فأخذها آدم فتحملها ، فذلك قوله:( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، الأمانة:الفرائض ، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال ، إن أدوها أثابهم . وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله:( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) يعني:غرا بأمر الله .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قال:عرضت على آدم فقال:خذها بما فيها ، فإن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذبتك . قال:قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم ، حتى أصاب الخطيئة .
وقد روى الضحاك ، عن ابن عباس ، قريبا من هذا . وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه ، والله أعلم . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والحسن البصري ، وغير واحد:[ ألا] إن الأمانة هي الفرائض .
وقال آخرون:هي الطاعة .
وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق [ قال]:قال أبي بن كعب:من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها .
وقال قتادة:الأمانة:الدين والفرائض والحدود .
وقال بعضهم:الغسل من الجنابة .
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم قال:الأمانة ثلاثة:الصلاة ، والصوم ، والاغتسال من الجنابة .
وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف ، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا من وفق الله ، وبالله المستعان .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة [ البصري] ، حدثنا حماد بن واقد - يعني:أبا عمر الصفار - سمعت أبا معمر - يعني:عون بن معمر - يحدث عن الحسن - يعني:البصري - أنه تلا هذه الآية:( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) قال:عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقيل لها:هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت:وما فيها ؟ قال:قيل لها:إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت:لا . ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد ، التي شدت بالأوتاد ، وذللت بالمهاد ، قال:فقيل لها:هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت:وما فيها ؟ قال:قيل لها:إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت:لا . ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب ، قال:قيل لها:هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت:وما فيها ؟ قال:قيل لها:إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت:لا .
وقال مقاتل بن حيان:إن الله حين خلق خلقه ، جمع بين الإنس والجن ، والسماوات والأرض والجبال ، فبدأ بالسماوات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة ، فقال لهن:أتحملن هذه الأمانة ، ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة . . . ؟ فقلن:يا رب ، إنا لا نستطيع هذا الأمر ، وليست بنا قوة ، ولكنا لك مطيعين . ثم عرض الأمانة على الأرضين ، فقال لهن:أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني ، وأعطيكن الفضل والكرامة ؟ فقلن:لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ، ولكنا لك سامعين مطيعين ، لا نعصيك في شيء تأمرنا به . ثم قرب آدم فقال له:أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم:ما لي عندك ؟ قال:يا آدم ، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة ، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة . وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت ، فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار . قال:رضيت [ يا] رب . وتحملها ، فقال الله عز وجل:قد حملتكها . فذلك قوله:( وحملها الإنسان ( . رواه ابن أبي حاتم .
وعن مجاهد أنه قال:عرضها على السماوات فقالت:يا رب ، حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة . قال:وعرضها على الأرض فقالت:يا رب ، غرست في الأشجار ، وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة . وقالت الجبال مثل ذلك ، قال الله تعالى:( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) في عاقبة أمره . وهكذا قال ابن جريج .
وعن ابن أشوع أنه قال:لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ، ضججن إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن ، وقلن:ربنا . لا طاقة لنا بالعمل ، ولا نريد الثواب .
ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية:( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) [ الآية] ، فقال الإنسان:بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى:إني معينك عليها ، أي:معينك على عينيك بطبقتين ، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق . ومعينك على لسانك بطبقتين ، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق . ومعينك على فرجك بلباس ، فلا تكشفه إلى ما أكره .
ثم روي عن أبي حازم نحو هذا .
وقال ابن جرير:حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال:قال ابن زيد في قول الله ، عز وجل:( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قال:إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابا وعقابا ، ويستأمنهن على الدين . فقلن:لا نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا . قال:وعرضها الله على آدم فقال:بين أذني وعاتقي . قال ابن زيد:فقال الله تعالى له:أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .
وقال ابن جرير:حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية ، حدثنا عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء ، فأرسلوا به ، فمنهم رسول الله ، ومنهم نبي ، ومنهم نبي رسول ، ونزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم ، إلا بينه لهم . فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح ، ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب ، فعالم يعمل ، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها ، حتى وصل إلي وإلى أمتي ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، ولا يغفله إلا تارك . فالحذر أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا .
هذا حديث غريب جدا ، وله شواهد من وجوه أخرى .
ثم قال ابن جرير:حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي ، أخبرنا أبو العوام القطان ، حدثنا قتادة ، وأبان بن أبي عياش ، عن خليد العصري ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة:من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - وكان يقول ، وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن - [ وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا] ، وأدى الأمانة ". قالوا:يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال:الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .
وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن أبي العوام عمران بن داور القطان ، به .
وقال ابن جرير أيضا:حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها - أو قال:يكفر كل شيء - إلا الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له:أد أمانتك . فيقول:أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له:أد أمانتك . فيقول:أنى يا رب ، وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له:أد أمانتك . فيقول:أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول:اذهبوا به إلى أمه الهاوية . فيذهب به إلى الهاوية ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها ، فيجدها هنالك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه ، فيصعد بها إلى شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت فهوى في أثرها أبد الآبدين ". وقال:والأمانة في الصوم ، والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع . فلقيت البراء فقلت:ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال:صدق .
قال شريك:وحدثنا عياش العامري ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . ولم يذكر:"الأمانة في الصلاة وفي كل شيء ". إسناده جيد ، ولم يخرجوه .
ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة قال:حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ". ثم حدثنا عن رفع الأمانة ، فقال:"ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر [ الوكت ، فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر] المجل كجمر دحرجته [ على رجلك ، تراه منتبرا وليس فيه شيء ". قال:ثم أخذ حصى فدحرجه] على رجله ، قال:"فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، حتى يقال:إن في بني فلان رجلا أمينا ، حتى يقال للرجل:ما أجلده وأظرفه وأعقله . وما في قلبه حبة من خردل من إيمان . ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت ، إن كان مسلما ليردنه علي دينه ، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه ، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن عبد الله بن عمرو ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا:حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة ".
هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص .
وقد قال الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب:حدثني يحيى بن أيوب العلاف المصري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن ابن حجيرة ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا:حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة ". فزاد في الإسناد:"ابن حجيرة "، وجعله من مسند ابن عمر . وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة ، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد:حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن خناس بن سحيم - أو قال:جبلة بن سحيم - قال:أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي:لا والأمانة . فجعل زياد يبكي ويبكي ، فظننت أني أتيت أمرا عظيما ، فقلت له:أكان يكره هذا ؟ قال:نعم . كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي .
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، قال أبو داود:حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حلف بالأمانة فليس منا "، تفرد به أبو داود ، رحمه الله .