قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} .
المراد بالكتاب في الآية ،كل كتاب أنزله إلى عباده .وقيل: المراد به القرآن الحكيم ؛فقد اصطفى الله من عباده هذه الأمة المباركة الفضلى ؛لتقوم بكتابه الحكيم فتبشر الناس بعلومه وأخباره وأحكامه ،وما تضمنه للعالمين من منهج قويم تهتدي به البشرية ،لتحيى به آمنة مطمئنة ،مبرأة من الأمراض والمفاسد والشرور ،ثم قسَّم الله هذه الأمة من حيث احتمالها لكتابه الحكيم ومدى التزامها بشريعته وأحكامه فجعلهم أصنافا ثلاثة .
أما الصنف الأول:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} واختلفوا في تأويله .فقيل: ذلكم المفرِّط في دينه ،المخالف أمر ربه .وقيل: الكافر أو الفاسق .وقيل: هو المؤمن العاصي .وهو الأولى بالصواب ؛لأن الكافرين المفرطين الفاسقين عن أمر الله لا يكونون في زمرة المسلمين الذين اصطفاهم الله لحمل كتابه وتبليغه للناس .
وأما الصنف الثاني:{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} عرّفه ابن كثير رحمه الله بقوله: هو المؤدي للواجبات ،التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات .
وأما الصنف الثالث:{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو الذي يفعل الواجبات والمندوبات ولا يأتي المناهي والمكروهات قال ابن عباس في تأويل قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} الآية: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،ورَّثهم الله كل كتاب أنزله ،فظالمهم يغفر له ،ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ،وسابقُهم يدخلُ الجنة بغير حساب .
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال في ذلك: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب .وثلث يحاسَبون حسابا يسيرا ،وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول ما هؤلاء – وهو أعلم تبارك وتعالى – فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يُشركوا بك فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي .
قوله:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}{ذَلِكَ} ،في موضع رفع مبتدأ .وخبره{الْفَضْلُ} و{هو} ضمير فصل بين المبتدأ وخبره .و{الْكَبِيرُ} صفة للخبر .ويجوز أن يقال:{ذَلِكَ} ،مبتدأ أول .و{هو} مبتدأ ثان .و{الفضل} خبر المبتدأ الثاني .والمبتدأ الثاني وخبره ،خبر عن المبتدأ الأول{[3871]} .
والمعنى: أن إيتاء الكتاب لهذه الأمة فضل كبير من الله لهم .ما وعدهم الله به جميعا من الجنة له فضل من الله كبير .وقيل: الإشارة عائدة إلى السابق بالخيرات .فسَبْقُهُ بالخيرات وما أعده الله له من عظيم الجزاء لهو فضل من الله كبير فٌضِّلَ به على من دونه في المنزلة .