قوله:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أي لا يستوي التوحيد والشرك ،ولا تستوي الطاعة والمعصية ،أو لا يستوي الحق والباطل ولا الهدى والضلال .وقيل: الحسنة ههنا بمعنى العفو والرفق ،والسيئة: الفحش والغلظة ؛والأولى بالصواب أن الآية تعم كل هذه المعاني فإنه لا تستوي الحسنة بكل وجوهها ،من توحيد وعدل وفضيلة واستقامة ورحمة ،ولا السيئة بكل صورها وأجناسها من الإشراك والعصيان والضلال والظلم والفحش فهما كلاهما لا يستويان .
قوله:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال ابن عباس: ادفع بحلمك جهل من جهل عليك ،وقال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ،والحلم والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم .وعنه أيضا: هو الرجل يسبُّ الرجل فيقول الآخر: إن كنت صادقا فغفر الله لي ،وإن كننت كاذبا فغفر الله لك ،وروي في الأثر: أن أبا بكر قال ذلك لرجل نال منع شرا . أي عفا عنه وقال له خيرا ،وقيل: التي هي أحسن ،يعني السلام إذا لقي من يعاديه .وقال ابن العربي: المراد به المصافحة ،وفي الأثر:"تصافحوا يذهب الغلُّ "وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة .وبذلك فإن المصافحة ثابتة ولا وجه لإنكارها ،وقد سئل أنس: هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟قال: نعم .وفي الأثر: من تمام المحبة ،الأخذ باليد ،ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ،فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجرُّ ثوبه ،فاعتنقه وقَبَّله .
وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما ".
قوله:{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} يعني: بهذا الذي أمرتك به من دفع الإساءة بالعفو والإحسان يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ،كأنه قريب صديق ،وهذه معلومة لا شك فيها ،وهي أن العفو والصفح عن المسيء ثم الإحسان إليه يسوقه – طواعية – إلى الندم ومراجعة النفس ليبادر خصمه المودة والملاطفة بعد ضغينة وجفاء ،وهذه حقيقة تتجلى ظاهرة مكشوفة في المتخاصمين المتباغضين من الناس إذا بادر أحدهم الآخر ،الإحسان والصفح .لا جرم أن الإحسان للآخرين من الخصوم وملاطفتهم بالمودة والرحمة يفجِّر في أعماقهم نوازع الخير التي جُبل عليها الناس ،على تفاوت بينهم .
وتلكم هي طبيعة الإنسان المشحونة بنوازع الخير والرحمة والجنوح للندامة والحياء ،ظواهر إنسانية كريمة تثيرها وتهيجها بواعث كثيرة وفي طليعتها العفو ومقابلة الإساءة بالإحسان ؛على أن ذلك يقال في الأسوياء من البشر أولي الطبائع السليمة والفِطر السَّوية المستقيمة ،أما الجانحون للخسَّة والإيذاء والشر ،أولو الطبائع المعوجة ،والفطر المنحرفة السقيمة ،والنفوس التي استحوذ عليها الرانُ والشذوذ والانحراف ،فإنها أبعد الخلق عن التأثر بالإحسان والاستجابة لخصال اللين والرأفة والتسامح .