قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ( 38 ) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ( 39 ) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} تتضمن هذه الآية أحكام السرقة كثيرة ومستفيضة يمكن الوقوف عليها في مظانه من كتب الفقه .
على أن عقوبة السارق بقطع يده صارمة يراد منها الحيلولة بين المجتمع وأسباب الفساد والتخريب والفوضى التي يقترفها فريق فاسد من الخائنين أولي الهمم الخاوية والطباع المريضة .ونعرض هنا للحملة المسعورة الحمقاء التي يثيرها خصوم الإسلام من صليبيين واستعماريين وصهيونيين وشيوعيين ووثنيين وأتباعهم من المقلدين الناعقين .لقد أثار هؤلاء الظالمون ضجة لاهثة هوجاء من التجني على الإسلام من أجل هذه العقوبة التي فرضها الإسلام لدرء الشر والأذى عن المجتمع .أثاروا حملة مجنونة كاذبة من الدعايات الظالمة لتشويه الإسلام ولتنفير الناس من الإقبال على هذا الدين الكريم العظيم .لا جرم أنها دعايات مصطنعة ومفتراة لا تحتمل الثبات أو التماسك عند النظر والتبصر ولدى المناقشة في تعقل وروية .إن ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات وتخريص حول هذا الدين لا يساوي في ميزان الحقيقة إلا ما تزنه الفقاقيع من ذرات البصاق المتطاير في الأفق عقيب الكلام الملفق الفاضح .الكلام الذي تجترحه حناجر الخراصين الدجاجلة من أعداء الإسلام في كل مكان وزمان .
لقد حسب هؤلاء الحاقدون الجهلة أن أيدي الناس سوف تقطع بالجملة لو عمل المسلمون بشريعة الإسلام .أو ظنوا أن مئات أو آلافا من الناس سوف يساقون في طوابير لتقطع أيديهم إذا ما طبق الإسلام ،لا جرم أن هذا بهتان مبين .بل إنه تصور ضال وجهول يراود هؤلاء الفارغين الذين لا يفهمون عن حقيقة الإسلام إلا ما يعيه الأطفال الرضع عن حقيقة الكون والحياة !
إن عقوبة السرقة بالقطع لا يفرضها الإسلام إلا ضمن ضوابط وشروط .وتلكم هي الشروط نذكرها باقتضاب وإيجاز .
الشرط الأول: التكليف .أي أن يكون السارق مكلفا .والتكليف يناط هنا بالعقل والبلوغ والاختيار .أما البلوغ فهو سن الاحتلام عند الذكور ،والمحيض لدى النساء .
أما الاختيار فهو كون السارق غير مكره .فإن أكره على السرقة فلا حد عليه ،وذلك للخبر"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "ويستدل لدرء الحد عن السارق إن كان غير بالغ ولا عاقل بالحديث"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ".
الشرط الثاني: أن يكون المسروق مالا متقوما .وبذلك لو سرق خمرا أو خنزيرا أو كلبا أو جلد ميتة فلا تقطع يده .وكذلك لو سرق صنما أو أداة الملاهي لا حد عليه .يستوي في ذلك ما لو كان المسروق منه مسلما أو كتابيا من أهل الذمة{[948]} .
الشرط الثالث: أن يكون المسروق بالغا نصابا .ومقدارا موضع خلاف بين العلماء .فقد ذهب الجمهور وفيهم المالكية والشافعية والحنابلة والشيعة الإمامية وآخرون أن نصاب السرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم ،فإن كان دون ذلك فليس نصابا ولا يجب فيه الحد .واحتجوا بجملة أخبار ،منها ما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ".
وذهبت الحنفية إلى أن نصاب السرقة الموجب للقطع هو دينار أو عشرة دراهم فإن كان دون ذلك فلا حد على السارق{[949]} واستدلوا لذلك بجملة أحاديث منها ما رواه النسائي عن أيمن قال:"لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمن المجن يومئذ دينار ".
الشرط الرابع: كون المسروق محرزا .أي أن يأخذه السارق من داخل الحرز .وهو الموضع المكين الحصين الذي يوجد فيه المال عند سرقته .نقول حرز حريز للتأكيد ،مثلما يقال حصن حصين .ونقول احترز من كذا .أي تحفظ منه{[950]} .
على أن شرط الإحراز عظيم الأهمية للغاية .ذلك أن المال المحرز محفوظ في مكانه المناسب المحصن بما لا يستطيع معه السارقون ومرضى النفوس أن ينفذوا إليه .
فإنهم يعوزهم الاقتدار على أخذه ما دام مخبوءا في موضعه الحصين .وذلك بخلاف غير المحرز فإنه مال في حكم المسيب الذي يصير عرضه لسطو اللصوص .بل إن كونه مسيبا وغير محرز فيه من الإغواء للسارقين ما يثيرهم ويغريهم بالنفاذ إليه لأخذه .وبذلك فإن صاحب المال غير المحرز ملوم لتقصيره وتفريطه إذ جعل ماله عرضة للسرقة .ومن بالغ العدل المطلق في شريعة الإسلام أن يكون لسارق المال من غير حرز بعض العذر ليندرئ عنه الحد .
وذلك بخلاف المال الذي يكون في حرز حصين مكين فإنه يصير بعيد المنال عن السارقين واللصوص لاستحالة بلوغه أو صعوبة الحصول عليه إلا بتحطيم الحرز وإتلافه .
فهو – في هذه الحال – لا ينفذ إليه إلا من كان حاذقا بارعا في الخيانة واللصوصية .أو كان على غاية من الاجتراء المتوقح الذي يستوجب العقاب الصارم وهو القطع .
واشتراط الحرز لوجوب القطع قال به عامة أهل العلم خلافا لأهل الظاهر وآخرين: إذا احتجوا بظاهر آية السرقة على وجوب القطع في كل سرقة كيفما كانت ومهما كان حجمها ،محرزة وغير محرزة .والصحيح الأول وهو اعتبار الحرز لإيقاع الحد{[951]} ويستدل على ذلك بما أخرجه البيهقي عن عثمان بن عفان قوله:"ليس على سارق قطع حتى يخرج المتاع من البيت "وكذلك روى البيهقي عن ابن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة{[952]} جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن "والتفصيل بأكثر من ذلك في مسألة الحرز يطلب من مظانه في كتب الفقه .
الشرط الخامس: أن تكون ثمة دعوى أو خصومة يقيمها صاحب المال المسروق ليطالب الحاكم أو القاضي بتضمين المتهم بالسرقة .فإذا ما استبان للحاكم اقتراف السرقة تماما وبشروطها المعروفة أقام الحد على السارق .وبذلك لو اعترف الجاني بالسرقة أو قامت عليه بينة بحصول السرقة منه فلا يقطع ،إلا أن يأتي صاحب المال يباح بالبذل والإباحة .ومن المحتمل أن صاحب المال قد أباحه لآخذه وهو المتهم بالسرقة .أو أن يكون وقفه على المسلمين وهو واحد منهم أو أنه أذن له في دخول حرزه .ومثل هاتيك الاحتمالات تفضي إلى تحصيل الشبهة التي يدرأ بها الحد .
وبذلك لا يقام الحد على السارق إلا عقب المطالبة من صاحب المال{[953]} .
الشرط السادس: انعدام الشبهة .والشبهة في اللغة من الاشتباه وهو الالتباس .نقول تشابها واشتبها أي أشبه كل واحد منهما الآخر فالتبسا .وأمور مشتبهة ومشبهة أي مشكلة .وشبه عليه الأمر تشبيها أي لبس عليه .فالشبهة تعني الالتباس{[954]} .
والشبهة في الحدود ما كان من انخرام أو نقص في شروط الجناية الموجبة للحد بما يجعل هذه الجناية لا تكافئ العقوبة المقدرة في الشرع .
وهنا السرقة ،فأيما انخرام أو نقص في شروطها يجعله الشرع شبهة تهبط بمستوى السرقة لتكون دون الجناية الموجبة للقطع .ذلك أن القصور في درجة الجناية قمين بدفع الحد كيلا يقع على الجاني ،لأن جنايته بحصول الشبهة كانت دون الجناية الكاملة المكافئة لعقوبة القطع .
وجدير ذكره هنا أن الإسلام قد حرض تحريضا على التماس الشبهات لدرء الحدود عن الجناة ما أمكن .والتصور الإسلامي في ذلك أن الخطأ في إيقاف العقوبة خير من إيقاع العقوبة ظلما عند حصول الشبهة .
فقد أخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ،فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ،فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ".
وأخرج الإمام أبو حنيفة في مسنده عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادرؤوا الحدود بالشبهات ".
وروي عن عمر رضي الله عنه قوله:"لأن أخطئ في درء الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات "{[955]} .
وثمة أمثلة تطبيقية يتبين منها أن الشبهة تدرأ حد السرقة عن السارق الذي لم تكتمل جنايته .وهي أمثلة منتشرة وكثيرة:
منها: لو اجتاحت الناس مجاعة مضنية تلين فيها العزائم ،وتسترخي بسببها الهمم فتجنح أنفس كثيرة قد عضها الطوى – للسرقة من أموال الناس .فلا مساغ للحاكم في مثل هذه الحال أن يقيم الحد على السارقين لما يحل بساحتهم من شبهة الجوع المضني .يقول الله جل وعلا في عموم ذلك:{فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} .
وكان عمر بن الخطاب يقول:"لا قطع في عام المجاعة والسنة "وذلك في عام الرمادة إذ حل بالمسلمين الجدب والقحط فقضهم الجوع قضا حتى إن بعضهم قد سرق لفرط الجوع فلم يقم عليهم عمر الحد .وذلك ما لا خلاف فيه{[956]} .
ومنها: لو سرق ضيف من مضيفه .فإنه ينظر ،إن كان سرق منه من غير حرز فلا قطع عليه ،لأنه مأذون له بالدخول .ونفس الإذن يجعله الشرع شبهة تدرأ الحد .لكنه إذا سرق من حرز في داخل الدار وجب قطعه ،لأنه غير مأذون له بالدخول في الحرز .وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة .بخلاف الإمام مالك فلا يجب عنده القطع حتى لو كسر الحرز وسرق منه المتاع ،لأنه مأذون له بدخول الدار .ومجرد الإذن بدخول الدار شبهة تمنع الحد{[957]} .
ومنها: لو سرق من أصله وإن علا ،أو من فرعه وإن نزل – كأن يسرق من أبيه أو جده ،أو يسرق من ولده أو ولد ولده ،فلا حد عليه .وهو قول الجمهور من العلماء ،وفيهم الحنفية والشافعية والحنابلة .أما المالكية فقالوا بعدم قطع الأصل بسرقة الفرع ،لكن الفرع إذا سرق من مال الأصل وجب قطعه وهو قول الشيعة الإمامية وابن المنذر وأبي ثور{[958]} .
على أن إجماعهم على عدم قطع الأب بسرقة ولده يؤيده ما رواه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصم أباه فقال: يا رسول الله !إن هذا قد اجتاح مالي ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك ".
وأخرج ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم ".
أما عدم قطع الابن بسرقة مال أبيه ،فوجهه أن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفظا له من التلف فلا يجوز إتلافه حفظا للمال .
ومنها: لو نقب أحد السارقين وحده بيتا ،ثم دخل الآخر البيت وحده ،فأخرج من المتاع المسروق فلا قطع على الاثنين ،لأن الأول الذي نقب البيت لم يسرق بل نقب الحرز ( البيت ) فقط .أما الثاني فلم يهتك الحرز ( البيت ) بل سرق من حرز مهتوك هتكه غيره .فهو كما لو نقب رجلا بيتا ولم يدخله وذهب ثم جاء آخر فوجد البيت مهتوكا .فسرق منه فلا قطع على واحد منهما{[959]} .
ومنها: لو دخل حرزا وأخذ متاعا فحمله أو لم يحمله ثم مسك قبل أن يخرج من الحرز فلا قطع عليه .ولو رمى المتاع خارج الحرز ثم مسك قبل أن يخرج منه فلا قطع عليه أيضا ،لأن يده لم تثبت على المأخوذ في الحالتين .فلا الأخذ لا يتم بإخراج المسروق من الحرز .وهو قول الحنفية{[960]} .
ومنها: لو سرق نقودا من بيوت غير حريزة كما لو كانت غير مغلقة تماما وليس عندها حارس يحرسها فلا قطع .
ومنها: لو سرق من بيت في غير العمران ،كأن يكون ذلك في البر أو الصحراء أو سرق من البساتين وليس فيها حافظ يحرسها فلا قطع ،لأن المال في مثل هذه الأمكنة لا يكون محرزا بغير حافظ مستيقظ{[961]} .
إلى غير ذلك من الشبهات التي لا تقبل الحصر والتي تحول دون تنفيذ القطع وبذلك لا يتحقق القطع إلا في حق فريق من اللصوص المجاهرين بالسرقة في وقاحة مكشوفة واجتراء لئيم مفضوح .أولئك فريق من المجرمين الأشرار يقتحمون بيوت الناس وأماكنهم فيهتكون أستارها هتكا لسرقة أموالهم في مجاهرة خسيسة ظالمة .لا جرم أنهم قلة وهم مفسدون أشقياء لا يستحقون غير العقاب الصارم وهو القطع .فلا يحسبن أحد من الجاهلين أن تطبيق الشريعة مدعاة لقطع كثير من الأيدي .إن هذا الزعم ليس إلا الوهم الغليظ يغشى الأذهان المتربصين والمتعصبين الحانقين الذين يكرهون الإسلام .
إن تنفيذ هذا الحد قليلا ما يتحقق لشدة الضوابط التي قررتها الشريعة في ذلك .وهي ضوابط لا يتجاوزها من السارقين المستحقين للقطع- إلا القليل .
قوله:{جزاء بما كسبا} جزاء ،مفعول لأجله منصوب .أي اقطعوا أيديهما للجزاء وقيل: منصوب على المصدر لاقطعوا .وبما كسبا ،أي بسبب كسبهما أو ما كسباه من السرقة .
قوله:{نكالا من الله} مفعول لأجله أيضا .أو منصوب على المصدر كالقول في{الجزاء} فيكون تقدير الكلام: جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالا من الله .والنكال اسم .نكل به تنكيلا ،أي صنع به صنيعا يحذر غيره .ونكل به نكلة أي أصابه بنازلة .ونكل به التشديد للمبالغة{[962]} .
قوله:{والله عزيز حكيم} أي أن الله قوي في انتقامه من السارقين وهو سبحانه لا يغالب في كيده لهم والانتقام منهم بما أوجبه عليهم من حد ،وهو كذلك حكيم فيما فرضه على السارقين والعصاة من حدود{[963]} .