المفردات:
نكالا من الله: أي: عقابا من الله ،ينكل به السارق ،أي: يردع عن معاودة السرقة ،ويحذر به هو وغيره من فعلها .
قال صاحب القاموس: النكال: ما نكلت به غيرك كائنا ما كان .
وقال أيضا: ونكل به تنكيلا: صنع به صنيعا بحذر غيره .
والله عزيز: أي: غالب ،فلا يفوته المعتدون .
حكيم: في شرع هذا الحد ؛لما فيه من الردع .
التفسير:
38- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
بعد أن بين حكم قاطع الطريق ،تكلم عن عقوبة السارق والسارقة ،وفي سورة النور بدأ الله بالزانية فقال تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ماِئَةَ جَلْدَةٍ .لأن الزني من المرأة أفحش ،ولان الحبل يظهر منها ،ولأن أسرتها تصيبها المعرة ،ولأن شهوة الاستمتاع على النساء أغلب ،وحب المال على الرجال أغلب ،والرجل على السرقة أجرأ{[225]} فناسب أن يبدأ في السرقة بالرجل ،وفي الزنى بالمرأة .
والسارق: هو الذي يأخذ مال غيره خفية من حرز مثله ،ولا شبهة له فيه ،دون طعن بسلاح أو تهديد به ،فإن طعن بسلاح أو هدد به- وهو ما يعرف الآن: بالسطو المسلح- فحكمه حكم قاطع الطريق ،الذي يسعى في الأرض فسادا .
ولا يعاقب السارق هذا العقاب إلا إذا كان بالغا عاقلا ،غير مالك للمسروق منه ولا ولاية له عليه ؛فلا تقطع يد صبي ولا مجنون ،ولا يد سيد أخذ مال عبده ،ولا يد عبد سرق مال سيده بإجماع الصحابة ،ولا يقطع الوالدان بسرقة مال ولدهما ؛لقوله صلى الله عليه وسلم"أنت ومالك لأبيك "{[226]} وقيل: تقطع يد الابن إذا سرق ما أبوبه .والراجح أنه لا يقطع لأن الابن ينبسط في مال أبيه كالعادة .
وإذا استكمل هذه الشروط ؛فلا تقطع يده إلا إذا سرق ما قيمته ربع دينار .
روى الشيخان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا "{[227]} .
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثورى: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ،أو دينارا ذهبا أو وزنا ، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل ،وحجتهم حديث ابن عباس قال: قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم ،ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم ،أخرجهما الدارقطني وغيره .
ومن العلماء من قال: لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم ،و منهم من قال: لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم ،ومنهم من قال: لا تقطع اليد إلا في ثلاثة دراهم ،ومنهم من قال: تقطع اليد في كل ما له قيمة على ظاهر الآية ،وهو قوم الخوارج .
قال القرطبي: وهذه الأقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك .اه .
إن التضخم ،وتدني قيمة النقود ،تجعل رأي الحنفية أولى بالاعتبار .
روى ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله ،فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة "{[228]} .
وعلى الحاكم أن يتثبت بعناية من واقعة السرقة ،وظروفها ودواعيها ،وان يعدل عن القطع عند وجود شبهة .
وتقطع يد السارق اليمنى من الكوع عند المفصل الذي بين الساعد والكف .فإن سرق ثانيا ؛قطعت رجله اليسرى من مفصل الرجل .
فإن سرق ثالثا ؛قطعت يده اليسرى ،فإن سرق رابعا ؛ قطعت رجله اليمنى ،فإن سرق بعد ذلك عزر بما يراه الحاكم رداعا مانعا ، وروى عن أحمد انه لا تقطع اليد اليسرى ولا الرجل اليمنى وهو قول أبي بكر وعمر وأبي حنيفة ، وروى عنه أنها تقطع ،وبه قال مالك والشافعي{[229]} .
وقال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع ،وذكره ابن العربي وقال: أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافا{[230]} .
وتثبت السرقة بالبينة والإقرار .
ملاحظة:
يرى بعض الفقهاء أن جاحد العارية تقطع يده كالسارق ،وأكثر الفقهاء يرون أنه لا قطع عليه ،لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا قطع على خائن "{[231]} .
أما من ذهب إلى أن جاحد العارية تقطع يده كالسارق فقد استدل بما رواه الشيخان عن عائشة قالت: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده ،فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ،فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:"لا أراك تكلمني في حد من حدود الله تعالى ،ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا وقال:"إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ،والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها "{[232]}
قال: فقطع يدها .
وجاء البخاري أنها سرقت ،وجاء في مسلم أن المرأة المذكورة كانت تستعير المتاع وتجحده .وقد توسع العلماء والفقهاء والمفسرون في تفسير هذه الآية وخصوصا التفاسير التي عنيت بالأحكام الفقهية ،ومثال ذلك أن القرطبي بين أن هذه الآية فيها سبع وعسرون مسألة كتبها في 15 صفحة ومن نماذج تفسير القرطبي ما يأتي:
المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: فاقطعوا .القطع معناه: الإبانة والإزالة ،ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق ،وفي الموضع المسروق منه وفي صفته .
1- فأما ما يعتبر في السارق فأربعة أوصاف وهي: البلوغ ، والعقل ،وأن يكون غير مالك المسروق منه ،وألا يكون له عليه ولاية ؛فلا يقطع العبد إن سرق مال سيده ،وكذلك السيد إن اخذ مال عبده لا قطع بحال ،ولا قطع على صبي ولا مجنون .
2- وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فثلاثة أوصاف:
( أ ) النصاب
( ب ) أن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه .
( ج ) ألا يكون للسارق فيه ملك كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره .
3- وأما ما يعتبر في موضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق .
وجملة القول فيه: أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه ،وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه ،فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها ،غاب عنها أهلها أو حضروا .
والقبر والمسجد حرز لما فيهما ،والخزانة في مكاتب الناس- أو الحكومة- حرز لما فيها ،وظهور الدواب حرز لما تحمل{[233]} .
فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا .والخطاب هنا لولاة الأمر الذين يرجع إليهم تنفيذ الأحكام والحدود .وجمع سبحانه اليد فقال: أيديهما .ولم يقل: يديهما بالتثنية ؛لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية .
قال القرطبي:
قوله تعالى: جَزَاء بِمَا كَسَبَا .مفعول من أجله ،وإن شئت كان مصدرا ،وكذا: نَكَالاً مِّنَ اللّهِ .اه وفيه بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت .
أي: اقطعوا أيديهما جزءا لهما بسبب فعلهما الخبيث ،وكسبهما السيئ وخيانتهما القبيحة ،ولكي يكون هذا القطع لأيديهما نكالا .أي: عبرة وزجرا- من الله تعالى- لغيرهما ؛حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة .
يقال: نكل فلان بفلان تنكيلا ،أي: صنع به صنيعا يحذر غيره .
وسميت هذه العقوبة نكالا ؛لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها ؛حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده ،وفضيحة لأمره ،وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .غالب على أمره ،حكيم في شرائعه وتكاليفه .
قال الأصمعي: قرأت هذه الآية ،وإلى جنبي أعرابي فقلت: والله غفور رحيم ،سهوا ؛فقال الأعرابي: كلام من هذا ؟قلت: كلام الله ،قال: أعد ؛فأعدت: والله غفور رحيم ،فقال: ليس كلام الله ؛فتنبهت فقلت: والله عزيز حكيم .فقال: أصبت هذا كلام الله ،فقلت له: أتقرأ القرآن ؟قال: لا ،قلت: فمن أين علمت أنب أخطأت ؟فقال: يا هذا عزيز حكيم .فأمر بالقطع ،فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع{[234]} فقد فهم الأعرابي أن مقتضى العزة والحكمة ،غير مقتضي المغفرة والرحمة ،وأن الله تعالى- يضع كل اسم موضعه في كتابه .