قوله:{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} .{يفتننكم} ،من الفتن والفتون ،بمعنى الإضلال والاستماله نحو الباطل{[1365]} والكاف في قوله{كما} نعت لمصدر محذوف ،والتقدير: لا يفتننكم مثل إخراج أبويكم من الجنة .والله عز وعلا يحذر بني آدم فتنة الشيطان لهم مثلما فتن أبويهم من قبل ،بالأكل من الشجرة فأخرجا بذلك من الجنة .يحذرهم غواية الشيطان وتغريره بهم وإزلاقهم ناحية الشهوات والمحظورات والمعاصي .ودأب الشيطان أنه مستديم التحيل والخداع بكل أساليب الإغراء والإغواء ،وبكل أسباب المكر والفتنة ؛ليحرف الناس عن دين الحق إلى ملل الباطل .
وذلك هو دأب الشياطين من البشر في حرصهم البالغ وتمالؤهم بالليل والنهار على الإسلام ؛ليستأصلوه استئصالا ،وعلى المسلمين ؛ليقضوا عليهم قضاء ،أو ليذروهم ضعافا مضطرين أشتاتا لا يربطهم بحقيقة الإسلام غير الاسم الخاوي من كل معاني الإسلام وقيمه ومضامينه .
قوله:{ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} ينزع ،جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير أخرج{[1366]} وتقدير ذلك: أخرج أبويكم من الجنة نازعا عنهما لباسهما لكي تظهر عوراتهما فيرياها .وغرض الشيطان في رؤية آدم وحواء عوراتهما هو أن يغتما ؛لأنه يسوءهما أن تظهر سوءاتهما لغيرهما كما بدت لهما ،وهذه صفة أهل المروءة ؛إذ يترفعون عن رؤية سوءات أنفسهم أو أن يراها غيرهم .أما ثيابهما التي كانت عليهما قبل العصيان فقد كانت نورا .وقيل: من ثياب الجنة .
قوله:{إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} المراد بالضمير ،الشيطان .والقبيل ،معناه الجماعة من الثلاثة فصاعدا .وجمعه قبل ،بالضم{[1367]} والمراد بهم هنا أعوان الشيطان وجنوده .وحيث ،مبينة على الضم ؛لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد ؛إذ لا يجوز إضافتها إلا إلى الجمل ،فأنزلت منزلة بعض الكلمة ،وبعض الكلمة مبني .وقيل: مبني على الضم ؛لأنه أشبه الحرف ،والحرف يكون مبينا ،فكذا شبيهه مبني{[1368]} .
هذه مبالغة هامة في تحذير العباد من خبث الشياطين ومكرهم ؛لأنهم يرون العباد من حيث لا يراهم العباد .لا جرم إذن أن يكون الشياطين بصفتهم هذه ،أشد اقتدار على الخداع والإغواء والإضلال ،فكيدهم بذلك عظيم وبالغ .وذلك كشأن الذي يرى خصمه من حيث لا يراه خصمه ،لا جرم أن الرائي منهما صاحبه أقدر على إيذائه والإيقاع به .ولو كان الآخر يراه لأخذ لنفسه الحسبان والحيطة فكان الإيقاع به أهون وأخف .
وعلى هذا كان حقا على العباد أن يحذروا الشيطان فيتخذوا لمجانبته وعدم الافتتان به كل أسباب الحيطة والحذر .
قوله:{إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون} أولياء ،أي قرناء أو أعوان ؛فقد سلط الله الشياطين على أعوانهم من غير المؤمنين ؛ليضلوهم ضلالا مبينا .قال الزمخشري في تأويل ذلك: خلينا بينهم وبينهم ،فلم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي{[1369]} .