{يَفْتِنَنَّكُمُ}: الفتنة: الابتلاء والاختبار والامتحان .يقال: فَتَنْتُ الذهب بالنار إذا امتحنته .
{وَقَبِيلُهُ}: القبيل: الجماعة من قبائل شتّى ،فإذا كانوا من أب واحد وأم واحدة فهم قبيلة .
تحذير عام لبني آدم من إبليس
وفي النداء الثاني تذكيرٌ وتحذيرٌ لبني آدم ،فإنّ عليهم أن يتذكّروا أن إبليس قد أخرج أبويهم من الجنة ،وأن يتعرّفوا كيف توصّل إلى ذلك ،وماذا أوحى إليهما من أفكار ،وما هي أساليب الوسوسة التي أثارت في داخلهما المشاعر الّتي هيّأتهما للتحرك في اتجاه تحقيق ما أراده منهما ...كما أنّ عليهم أن يحذروا من فتنته الشيطانية التي يحاول من خلالها أن يثير فيهم الأفكار والأجواء المنحرفة عن خط الله ،ويوسوس لهم في همساتٍ حميمةٍ خفية ،ليزين لهم معصية الله ،كما لو كانت حلماً من الأحلام ،أو لوناً من ألوان السحر ،ليعيش الإنسان معها في أجواء سحرية ضبابية غامضةٍ ،ليسهل انجذابه إلى النار التي يحترق فيها إيمانه وفكره ،تماماً كما هي الفراشة التي تجذبها أشواق اللهيب إلى النار .
وبذلك لا تكون الذكرى شيئاً من التاريخ ،بل حركة وعي ،ودرس إيمان ،وسبيل حرية ...يفهم الناس من خلالها دورهم في الحياة ،ومسؤوليتهم في بناء كيانها على أساس إرادة الله ،ويعرفون كيف ينتبهون إلى إيمانهم ليعمِّقوه في داخلهم ،ليحرّك فيهم اليقظة الدائمة التي ترصد كل حركة داخليّة محمومةٍ في مشاعرهم ،وكل فكرةٍ خارجيةٍ منحرفةٍ تتسرب إلى أفكارهم ،لتبتعد بهم عن الله ،ويواجهونفي مواجهتهم للشيطانقضية التحرر منه ،كما لو كانت قضيةً من قضايا الحرية في الحياة .{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} فيقودكم إلى السبل التي تفتنكم وتقودكم إلى السير في طرق الكفر والضلال والعصيان ...{كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} ،بما أوحى إليهما من وسائل خداعه وغروره وفتنته .
{يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} الذي يستر عورتيهما في ما ألقى الله عليهما من ألوان الستر ،{لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} وليعيشا الإحساس بالخزي والعار .ولا بد لكم من اليقظة الروحية الدائمة ،والوعي المنفتح المستمر ،والرصد المتتابع المتحرّك لكل كلمةٍ ،أو همسةٍ ،أو فكرةٍ ،أو عاطفةٍ ،أو علاقةٍ ،أو عملٍ ،أو شهوة ،أو طموح ...لأنه يحاول الاختباء في كل واحدةٍ من هذه ليشوّه فيها جمال الطهر ،ونقاء الروح ،واستقامة الطريق ...لا بد من التحرك على كل الصعد ،وبكل الوسائل التي وهبها الله للإنسان من عقلٍ وإرادة وإيمان ..لأنكم تخوضون المعركة في داخل نفوسكم وخارجها ضد عدوٍ لا تعرفونه بالحسّ ،ولا تعرفون أعوانه وجنوده ،إلا بما يعرّفكم الله من وسائله ومخططاته ،بينما يراكم هو وقبيله ،بكل ما تعيشونه من أفكار ومشاعر ،وبكل ما يحيط بكم من قضايا وأوضاع ...
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فأنتم مكشوفون أمامهم ،أما هم فليسوا مكشوفين لكم .ولكنّ الله يحفظ المؤمنين من الشياطين ،من خلال ما يلهمهم من أسباب الخير ويوفقهم إليه من وسائل الهداية ،إذ يرعى برعايته عباده المؤمنين الذين يتحركون في الحياة تبعاً لمرضاته ،فهو وليهم الذي يؤيدهم ويرعاهم ...أما الذين لا يؤمنون به ولا يسيرون في طريقه ،فإن الشياطين هم أولياؤهم .ولا معنى لولاية الشيطان إلا الإمعان بعيداً في الخداع والغرور الذي يقود الإنسان إلى الهلاك المحتوم ...{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وليس معنى نسبة الجعل إلى الله أنه أمر جبرٍ يفقدون معه الإرادة في ما كوّنه الله فيهم من هذه الولاية التي تربطهم بالشيطان أو تربطه بهم ؛بل هو أمرٌ اختياريٌّ ،أوكله الله للإنسان الذي يختار لنفسه طريق السير مع الشيطان ،فتكون النتيجة الطبيعية حصول هذه الولاية بينه وبينه ،انطلاقاً من ارتباط المسبّب بالسبب ،فالله خلق السببيّة في طبيعة الأشياء ،أمّا الأسباب فهي بيد الإنسان ،وبذلك يمكن نسبة الفعل إلى الله من جهةٍ ،كما يمكن نسبته إلى الإنسان من جهةٍ أخرى ،كما فصّلنا ذلك في أكثر من موضع في هذا التفسير .