{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما} .
النداء للناس أجمعين ، وكان النداء بقوله تعالى:{ يا بني آدم} لهذا العموم ، ولتذكير الأبناء بما كان للآباء من عداوة إبليس ، وتهديده بإغوائهم ، وانه يقعد لهم الصراط المستقيم ، وأنه وسوس لأبوي الآدميين .
قال الله تعالى ناهيا:{ لا يفتننكم الشيطان} النهي للآدميين ، والفاتن هو الشيطان ولم يوجه النهي إليه ؛ لأنه تمرد على أمر ربه ، وخرج مذءوما مدحورا ، وكان النهي لبني آدم مع أن الفاعل غيرهم ، ؛ لأن معنى النهي حينئذ ألا يمكنوه منهم ، وذلك بطاعة الله وحده ورد الأوهام والهواء ، فإنها باب الشيطان فإن سد باب الوهم والهوى ، فقد سدت مسالك الشيطان ، واستقام في النفس أمر الرحمن ، فالحصن الذي يقي المؤمن فتنة الشيطان ، هو الطاعة لأوامر الله تعالى ، وتقوية العزيمة . . . . . . . . والإرادة وأن يكون للرحمن وليا ويتقي ولاية غير الله تعالى .
والفتنة معناها في أصل اللغة:فتن الفلزات من الذهب والفضة والحديد ، والنحاس ، لإخراج ما يكون فيها من مادة ليست من جوهرها . ثم أطلقت على كل شدة يتميز بها الخبيث من الطيب ، وتختبر فيها الإرادات ويتميز فيها ذوو العزائم ، ثم كانت للنتيجة وهي محاولة خداع النفوس بالإتيان بما يهد العزيمة ويضع الإرادة ، بخداع النفس ، وإرهاق الإرادة والطغيان على حكم العقل وإضعاف سلطانه .
وهي هنا من هذا القبيل ، فالله تعالى ينهانا عن أن ننخدع بالشيطان ، وله ماض في إيذائنا وخدع أبوينا:آدم وزوجه حواء ، اللذين كان منهما التناسل الإنساني الدائم ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وقد عزز الله تعالى النهي عن الانخداع بإبليس ، بماضيه ، إذ خدع آدم وحواء ، فأتى نفوسهما من جهة ما هو في فطرة الإنسان ، من حب العلو ، والخلود ، فقال لهما مقسما لهما:{ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} ومن هذا الباب دخل إلى أنفسهما وأتباعه من بعده ، يسلكون هذا الطريق ذاته فهم يأتون النفوس من قبل ما تحب وتشتهي ، فالأهواء والشهوات الباب الذي يدخل منه الشيطان إلى النفوس ، والسلطان والطغيان بابان مفتوحان من أبواب الشيطان .
وقد كان لوسوسة إبليس لأبوي الخليقة ، أثران:ذكرهما الحق – سبحانه – في كريم آياته الأولى:
أولهما:إخراجهما من الجنة . فقال فيها:{ كما أخرج أبويكم من الجنة} وهو – كما أخرجهما من جنة الله تعالى – يخرجكم يا بني آدم ، من جنة الطاعة وعزتها ، إلى ذلة المعصية وغوايتها .
ثانيهما:أنه ترتب على ذلك أن بدت لهما سوءاتهما ، وصارا تحصنان عليها من ورق الجنة ، كما قال تعالى:{ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما} .
كذلك الشيطان ينزع عن المؤمن كل ما استكن في قلبه من خير ، ويكشف عورات الناس ، وسوءات المجتمع الإنساني .
وإن في ذلك لإشارة واضحة إلى أن الشيطان الذي نزع لباس آدم وحواء هو الذي ينزع عن العرب لباسهم في الطواف حول أقدس بيت الله في الأرض , أول بيت وضع لعبادة الناس و هوالبيت الحرام.
وإذا كان إبليس قد تراءى في الجنة الأولى لآدم وحواء فدلاهما بغرور ، فإن أتباعه لا يظهرون ، ولكن يوسوسون ؛ ولذا قال تعالى:{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} .
إن إبليس يختفي ولكن له سلطان قوى على النفوس والقوة الخفية له هو وقبيله أي جماعته التي يجمعها ، هذه القوة تبعث في النفس بقدر لا يقل عن القوة الظاهرة التي كانت لأبوي الخليقة أدم وزوجه ، وهذه القوة يؤثر بها في نفوس الكبراء بإغرائهم بالسلطان وتسليطهم على الضعفاء فيكون على الضعفاء قوتان تسيطران على أنفسهم:قوة أصحاب السلطان الظالم ، وقوة الشيطان والاستخذاء له في نفوسهم . والمؤمن القوي يدفع الإغراءين ولا يستمع إلى الله سبحانه وتعالى ، فإذا كانت هذه تسيطر ، فقوة الحق عند أهل الحق أقوى ، ولو كانوا عبيدا أو ضعفاء ؛ لأنهم مؤمنون بالله – سبحانه وتعالى – وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تأثير الشياطين الخفية وتأثير الملائكة ( أن للملك لمة وللشيطان لمة ، فأما لمة الملك فوعد بالخير وتصديق بالحق ، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ) ( 1 ){[1090]} .
واللمة ما يلم بالقلب ويتصرف القلب والنفس بمقتضاه ، فالقلب تتنازعه قوة الحق وهي من الله أو من الملك ، وقوة الشر ، وهي من الشيطان ، وهو يرهب من الحق ، ونتائجه ، ويغرى بالهوى والشهوة .
وإن قوة الإيمان تدفع إغراء الشيطان ، فالإيمان والتقوى حصنان للحق ، والكفر والهوى حظيرة الشيطان ؛ ولذا قال تعالى:{ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} .
إنه إذا كانت التقوى قوية ، تكون إرادتها للحق ، وعزيمتها في الخير عزيمة صادقة ، لا يقوى الشيطان على قهرها ، أما النفوس المضطربة بالباطل التي فسدت فطرتها ، فغن الشيطان يجد السبيل لبث شروره وإغوائه وفتنته وخديعته فيها ؛ فإنها لفساد فطرتها واضطراب فكرهم – تجد فيها الشياطين داعيتهم ، وهذا معنى جعلهم أولياء للشياطين ، فمعنى قوله تعالى:{ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} .
أي أنهم لإفساد فطرتهم المستقيمة وجعلها معوجة ، والاعوجاج دائما ، يفتح ثغرات لهذا الشر ، وتلك الوسوسة التي بها يكون الشياطين أولياءهم ، وإنما جعل الله تعالى الولاية ليست في النفوس الإنسانية ، وإنما جعلها للشياطين أنفسهم ، فقال سبحانه:{ إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} ؛ لأن الشياطين يفعلون والنفوس الإنسانية تتقبل ، واعوجاجها يسهل دخول الشر فيها ، والولي هنا هو الموالى والنصير المتصل ، فالله – سبحانه – جعل الشياطين موالى وأحباء وأصدقاء للذين لا يؤمنون ، الذين ليست قلوبهم مؤمنة مذعنة للحق ؛ ولذا ذكر الفعل المضارع بقوله:{ للذين لا يؤمنون} ، أي ليس من شأنهم الإيمان والإذعان للحق ، فالكافرون أولياءهم الشياطين والطاغوت .