وإن من إغواء الشياطين لبني آدم ، أن ينسوا أفعالهم إلى الله ، وإلى أتباع آباءهم ؛ ولذا قال تعالى:{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمنا بها} .
أشرنا إلى ما كان يفعله المشركون في الحج ، وما كانوا في هذا إلا متبعين لما كان عليه آباؤهم ، وفي هذا يتبين ما جاء عن مفسري التابعين في هذا الموضوع .
الفاحشة:الأمر الزائد عما تقبله العقول المستقيمة ، والاحتشام الإنساني والحياء الخلقي ، ولا شك أنهم بطوافهم عراة ، يرتكبون أفحش الأعمال الخارجة عن حدود العقل ، والاتزان ، والحياء الفطري .
ولقد روى مجاهد في ذلك ، أن المشركين كانوا يطوفون البيت عراة ، فكانوا يقولون:نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ، وكانت المرأة تضع على قبلها شيئا تستره به ، فأنزل الله تعالى:{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} وقد قال الحافظ بن كثير في ذلك:وكانت العرب ما عدا قريشا ، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله تعالى فيها ، وكانت قريش ، وهم الحمس ( جمع أحمس ) يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه لئلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوبا جديدا ، ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا ، وربما كانت امرأة تطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا يستره بعض الستر فتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلهوما بدا منه فلا أحله
( وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل ، وكان هذا شيئا ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ) .
وإن هذا الكلام يدل على أمرين خطيرين:
أولهما – أن ذلك كان يحدث من العرب مخالفا كل عرف ، ومخالفا لكل تفكير سليم فما كان ليرضى أحدا مثل هذا ، وهو أشد أحوال الفحش في الأفعال !
ثانيهما – ما يزعمون من أنهم لا يطوفون بثياب ارتكبت فيها معاص لهم .
وكأن قريشا لا معاصي لهم ، مع أن بعضهم ما كان يتحاشى المفاخرة بالمعاصي ، فقد كان منهم من هو رجس في رجس . وإذا كان منهم من كان يمتنع من التدلي فيما يخدش مروءته كعبد المطلب ، وأبي طالب ، والعباس ، فقد كان منهم أيضا من لا يمتنعون عن بعض المعاصي ، كالربا ونحوه .
وإنهم إذ يفعلون هذه الفاحشة يبررونها بأمرين:
أولهما – أمر يتفق مع العقل الجاهلي ، وهو أنهم يقولون:{ وجدنا عليها آباءنا} ، ولو كانت فحشا ، ولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
الأمر الثاني – أنهم يفترون على الله ، ويقولون:{ والله أمرنا بها} ويتأولون ذلك بأنه ما دام لم ينهنا عنها فقد أمرنا بها .
وهذا تفكير جاهلي ، يقولون أمر الله بالشرك وبتحريم بعض الذبائح ، وتحريم بعض ما تخرجه الأرض ، ويقولون:{. . . . . . . . . . . . لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء . . . . . . . . . . ( 148 )} ( الأنعام ) وهذا ما يبرر به المعاصي بعض الجاهلين في هذا الزمان ، وقد رد الله كلامهم بقوله تعالى:{ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون .
أمر الله تعالى نبيه بأن يواجههم بافترائهم على الله تعالى ، بيان أنه يستحيل على الله ما يفترون عليه ؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق ، ومن له الكمال المطلق لا يأمر بالفحشاء ؛ لأنه لا يصدر عنه إلا ما هو كمال في ذاته ؛ ولا يتنافى مع عقل عاقل ويرضاه ذو ذوق سليم . وقال تعالى:{ لا يأمر بالفحشاء} ولم يقل ( ما أمر بذلك ) ، أو ما أمر بالفحشاء ، بل قال نافيا الأمر بالفعل المضارع:{ لا يأمر بالفحشاء} فلا يمكن أن يأمر بذلك لا في الماضي ولا في المستقبل ، وليس من شأنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وكان النفي بالمضارع ؛ لأنه نفى لشأن الله ثم قال تعالى ، كما أمر نبيه أن يستنكر قولهم:{ أتقولون على الله ما لا تعلمون} ؟ ! الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع ، أي لتوبيخهم على ما وقع منهم ؛ لأنهم فعلا افتروا على الله افتراء ، فقالوا ما لا يعلمون صدقه ، ولم يصل إليهم عن الله أمره فيه وحكمه .
وإن ذلك فوق أنه توبيخ لهم ،واستنكار لفعلهم – فيه توجيه لهم لئلا يتكلموا إلا بعلم ، وأن الشيطان لينفذ إلى ما يحكمون به بأوهامهم وأهوائهم . وتقديم قوله تعالى:{ على الله} لبيان وجه الاستنكار الشديد ، وهو انهم يقولون على الله جل جلاله ، فكان قولهم هذا أشد الافتراء .