أَنزَلْنَا}: خلقنا ،باعتبار أن الله سبحانه أنزل الأشياء بالخلق إلى عالم الشهادة ،قال تعالى:{وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [ الحديد:25] .وقال:{وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاَْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [ الزمر:6] .
{لِبَاسًا}: اللِّباس: كل ما يصلح للبس من ثوبٍ أو غيره ،من نحو الدرع ،وما يغشى به البيت من نطعٍ أو كسوةٍ .
{وَرِيشًا}: الريش والأثاث: متاع البيت من فراشٍ أو دثارٍ .وقيل: الريش ما فيه الجمال ومنه ريش الطائر ...قال الزجّاج: الريش كل ما يستر الرجل في جسمه ومعيشته ،يقال: تريّش فلان أي صار له ما يعيش به ،وتقول العرب: أعطيته رجلاً بريشه أي بكسوته ،وقال أبو عبيدة: الريش والرياش ما ظهر من اللباس .
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: اللباس المعنوي الذي يستر العيوب والأخطاء ونقاط الضعف الإنساني ،الذي يمثل الحالة الروحية والفكرية التي يشعر معها الإنسان بضبط حركة غرائزه وشهواته ومطامحه ومطامعه ،وجعلت التقوى لباساً من طريق التمثيل والتشبيه لأنها تقي الإنسان وتعصمه .
القراَن يحذر بني آدم ويوجّههم
انتهت قصة إبليس مع آدم ،واستطاع آدم بعد نزوله إلى الأرض أن يعي تماماً معنى الدور الشيطاني لإبليس في الإضلال والإغواء ،من موقع العقدة المستحكمة في نفسه ضدّه ،وأن يحفظ نفسه منه ،فلم يحدّثنا الله عن خطأٍ آخر في مخالفة أوامره ونواهيه ،بل الظاهر أنه استمر في الخط المستقيم الذي ترتبط فيه كل ممارسات حياته وتطلعاتها بالله ،بعيداً عن وساوس الشيطان وأضاليله ...وجاء دور إبليس مع بني آدم ،فقد عاش من أجل أن يضلّهم ويغويَهم ويقودهم إلى عذاب السعير ،ولم يكن لهم معه تجربةٌ حسيةٌ ،كتجربة آدم الذي كان قد رآه وشاهد كيف تحركت عقدة الكبرياء في نفسه ضدّه ،في موقفٍ استعلائي حاقدٍ ،رافضٍ لإرادة الله في ما يختلف عن مزاجه في هذا السبيل ؛وليس لهم مجال ليشاهدوه وجهاً لوجهٍ ،ليعرفوا كيف يتحرك في حياتهم من موقع التجربة الحسية الواضحة ،فأراد الله لهم أن يأخذوا من تجربة أبيهم آدم درساً للمستقبل ،وخطّاً للسير في طريقة تعاملهم معه ،وحذرهم منه ،ودعاهم إلى محاربته ،من أجل تحقيق الحماية لأنفسهم من ضلاله وكفره ....فكانت الآيات القرآنية التي تشرح لهم كيف يتصرفون معه ،وكيف يواجهون مخطّطاته ،ليكونوا على وعيٍ دائمٍ ،ليحفظوا أنفسهم من المصير المحتوم الذي يريد أن يقودهم إليه في عذاب الله وعقابه ...
لباس التقوى خيرٌ
وجاءت هذه الآيات التي تبدأ النداءات بكلمة{يَا بَنِي آدَمَ} للإيحاء إليهم بالتجربة الحيّة التي عاشها آدم مع إبليس ،لئلاّ يكون التفكير في المسألة في المطلق ،بل يكون من موقع التاريخ الحي .وقد استوحت الآيات قصة العري الذي شعر به آدم بسبب معصيته ،في حالةٍ من الإحساس بالخزي والعار ،لتوجه بنيه إلى النعمة التي أنعم الله بها عليهم ،في ما خلق لهم من اللبِّاس الذي يصنعونه من أصواف الأنعام وأوبارها وشعورها ،وفي ما رزقهم من الريش الذي يمثّل ما كان فاخراً من اللباس والأثاث ليتزينوا به أو يلبسوا منه ،ليشكروا الله على ذلك ،{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} .ولكن الله يريد أن يوجههم إلى أن القضية التي ينبغي أن تُلحّ عليهم ليست اللباس الذي يستر عوراتهم ،لأن ذلك لا يمثل إلا جانباً محدوداً من جوانب حياتهم التي تتعلق بحماية ما يريد الإنسان أن يحمي منه جسده ،بحيث لا يريد للناس أن ينظروا إليه ،بل ينبغي لهم أن يوجِّهوا اهتمامهم إلى اللباس المعنوي الذي يستر عيوبهم وأخطاءهم ،وهو لباس التقوى الذي يمثل الحالة الروحية والفكرية التي يشعر الإنسان معها بالحاجة إلى أن يضبط حركة غرائزه وشهواته ،ومطامحه ومطامعه ،في الاتجاه السليم الذي ينسجم مع إرادة الله في أوامره ونواهيه ...على أساس محبة الله وخوفه ،اللذين تخضع لهما هذه الحالة الداخلية .وهذا ما أشار إليه بقوله:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} لأن قيمة هذا اللباس ،أنه يرتبط بمسألة المصير في الدنيا والآخرة في ما يواجهه الإنسان من نتائج إيجابية في حركة حياته ،في التزاماته الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو السياسية ،أو في الخط الفكري الذي يحكم مسيرة حياته ...وبذلك يكون فقدانه فقداناً لذلك كله ،كما يكون سبباً للشعور العميق الساحق بالخزي والعار أمام الله ،عندما يقف الإنسان بين يديه ،عارياً لا تستره أيّة فضيلةٍ ،ولا يحميه من عقابه أيّ شيء ...{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} التي ينبغي للناس أن يتأملوا فيها ويدرسوها ،ليعرفوا من خلالها عظمة الخلق وقيمة النعمة{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ،فتقودهم الذكرى إلى الوقوف الواعي أمام أوامر الله ونواهيه بكل قوةٍ وإيمان ،كما تقودهم إلى الابتعاد عن حبائل الشيطان وخداعه وغروره ...
كلمة في التقوى
لقد عبّر الله عن التقوى أنها «لباس » ،{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [ الأعراف:26] ،لأن هذا المفهوم القرآني لا يمثّل حالة نفسية في حالة الخوف الذي يصيب الإنسان مما يخافه ويحذره ،بل هو حالةٌ عقليةٌ وشعوريةٌ وحركية تشمل الكيان الإنساني بكله في مواجهته لكل الأشياء المؤذية المضرّة له في مواقع مصيره في الدنيا والآخرة ،ليخطط بفكره ،ولينفتح بإحساسه ،وليتحرك بوسائله الجسدية وغيرها ،من أجل حماية نفسه من ذلك ،تماماً كما هي مسألة حماية الحياة مما يضرّها أو يقضي عليها .
وهذا هو الذي تحدّث عنه علماء اللغة ،فقد جاء في مفردات الراغب قال: «التقوى جعل النفس في وقايةٍ مما يخاف ،هذا تحقيقه ،ثم يسمَّى الخوف تارةً تقوى ،والتقوى خوفاً ،حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه ،والمقتضي بمقتضاه ،وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم ،وذلك بترك المحظور » .
وعلى ضوء هذا ،فإن التقوى تمثل فعلاً إنسانياً في حماية الخط الإيماني من عوامل الانحراف ،ووقاية المصير من أسباب الهلاك ،وبذلك فإن التقوى تمثل حماية الإنسان نفسه من غضب الله بالابتعاد عن مواقع سخطه وبالانفتاح على مواقع رضاه ،لأن الإيمان بالله في مقام ربوبيته وآفاق عظمته وموارد نعمته ،تفرض عليه الإحساس بمسؤوليته عن الأخذ بطاعة ربه والبعد عن معصيته ،والقيام بحق الله في ما ينبغي له من ذلك ،كما جاء في قوله تعالى:{اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بحيث يعيش الإنسان حقيقة التقوى في خطوطها الفكرية والعملية من خلال إرادته واختياره ؛فإن الفكر لا يمكن ان يخضع لضغط يحدد له كيف يفكر ،ولكنه ينفتح ،في دائرة إحساسه بالمسؤولية على أفق يوحي إليه بذلك كله .
التقوى حالةٌ شاملةٌ لكلّ الأوضاع الإنسانية
وهكذا تنطلق التقوى لتتنوّع في أبعاد حياة الإنسان ليكون تقياً في طعامه وشرابه ،فلا يأكل ولا يشرب إلا حلالاً ،وفي شهواته ولهوه ولعبه ،فلا يأخذ بالحرام من ذلك ،وفي علاقاته الاجتماعية ،فلا يتحرك بالفتنة والفساد والانحراف الذي يمزق المجتمع ويفسده وينحرف به عن خط السلامة العامة في أوضاعه وروابطه واتجاهاته ،وفي حركته السياسية ،فلا يتحرك إلاّ بما يقوي العدل ويؤكد الحق ،ويدعم الحرية الإنسانية ،ويحمي المصير .
وهكذا تتحول التقوى من حالة خوفٍ سلبيٍّ إلى عمل وقائي إيجابيّ ،ومن حركةٍ في الشكل إلى حركة في المضمون .
التقوى عمقٌ فكريٌ وروحيٌ في الإنسان
وهذا ما جاءت الرواية به عن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله( ع ) ،فذكرنا الأعمال فقلت أنا: ما أضعف عملي ،فقال مَهْ ،استغفر الله ،ثم قال لي: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى .قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى ؟قال: نعم ،مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطىء رحله ،فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه ،فهذا العمل بلا تقوى ،ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه .
فهذا الحديث يوحي بأن مسألة التقوى ليست مسألة استهلاك للعمل من دون وعيٍ وعمقٍ في القاعدة الفكرية الروحية للإنسان ،بل هي مسألة عمق فكري روحيّ يكمن في الذات ليملك الإنسان نفسه أمام عناصر الانحراف التي تجتذب عناصر الضعف فيه لتنحرف به عن الخط المستقيم ،الأمر الذي يجعل القضية مرتبطة بالنوعية لا بالكمية .وقد جاء في حديث آخر عن أبي جعفر( ع ) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: لا يقلّ عملٌ مع تقوى وكيف يقلّ ما يتقبل .وهكذا نفهم كيف تعطي التقوى للعمل حجمه وحيويته وحركته في رضوان الله ،فيتقبله الله فيكون كثيراً في نتائجه ،وهو القليل في حجم العدد .
وتبقى مسألة التقوى في مسؤولية الإنسان خاضعة لقدرته{فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأن الله يريد للإنسان جهده ،فلا يكلفه ما لا يطيق ،فعليه أن يحرك التقوى في مدى استطاعته في إيحاء خفيٍّ بأن الاستطاعة معنى متحرّك في تنمية الإنسان لقدرته تبعاً لطموحاته الفكرية والروحية والعملية في التنمية الذاتية ،في وجوده في العرض والطول ،والكمية والنوعية .
وتتحول التقوى في وجدان الإنسان إلى وعي الكلمات الرسالية التي إذا سمعها المتقون ،المفتوحة قلوبهم على كلمات الله ،كانت هدى لهم{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة:2] وإذا اكتست مضموناً وعظياً يحرك مشاعر الإحساس ونبضات القلوب كانت موعظة لهم{وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[ البقرة: 64] وإذا انطلقت لتخرج الإنسان من غفلته كانت ذكراً لهم{وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ} [ الأنبياء:21] أما غير المتقين ،فقد أغلقت قلوبهم عن الوعي والشعور والإحساس{لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} .
سمات المتقين
وينطلق القرآن ،في اتجاه الحديث عن ملامح المتّقين في حركة الالتزام العمليّ ،فهم لا يطوفون مع الشيطان إذا طاف بهم ،بل يبتعدون عنه ليتذكّروا ربهم ومصيرهم{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [ الأعراف:201] ،فيبصرون بالعيون الروحية المفتوحة النور النازل عليهم من وحي الله .
وهم الذين يعيشون العطاء كقيمةٍ ممتدة في جوانب حياتهم في السرّاء والضرّاء ،لا كحالةٍ سريعةٍ خاضعةٍ لظروفٍ طارئةٍ ،وهم الذين يحبسون غيظهم بالروح الرضيّة التي لا ترى في تفجير الغيظ متنفساً للعقدة الحادة الكامنة في نفوسهم ،لأنهم لا يعتبرون العلاقة بالإنسان الآخر في سلبياته الموجهة إليهم عقدةً تفصلهم عنه ،بل يعتبرونها مشكلة تدفع العقل إلى التفكير بحل ،وهم الذين يتابعون التفكير في أشد حالات الغيظ ليفكروا بالله الذي يقول لهم{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [ البقرة:237] وليدققوا في نتائج الموقف ،فيصلوا إلى النتيجة الأخلاقية الحاسمة ،وهي المبادرة بالعفو ،لأنه الشكر العملي لله في القدرة على هذا الإنسان المسيء ،وهم الذين يبدلون السيئة بالحسنة ،لأن ذلك هو مظهر القيمة الأخلاقية بالإحسان إلى من أساء إليك ،المعبّرة عن عمق القيمة الروحية في الذات التي لا تبحث عن ردة الفعل على فعل الآخر ،بل تبحث عن رضوان الله ،وهذا هو قوله تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [ آل عمران:133134] .
وهم الذين يبادرون إلى الاستغفار من الذنب إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بالانحراف عن خطّ الطاعة لله ،لأنهم يعرفون أن الله يغفر الذنوب كلها إذا عرف من عباده صدق النية في التوبة والإخلاص له وعدم الإصرار على الذنب ،وذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [ آل عمران:135136] .
وهم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ،فلم يتركوا أيّة مفردةٍ من مفردات الإيمان إلا وآمنوا بها والتزموها في وجدانهم العقيدي .وهم الذين يؤتون المال ،سواء حباً لله تعالى ،أو على حبهم لهأي للمالبحيث يكون بذله تضحية بهذا الحب ،وذلك لكل الذين يمثلون مصاديق حب الله تعالى في الإنفاق من الفئات المحرومة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ،وفي تحرير الرقاب من العبودية .وهم الذين يقيمون الصلاة ،ويؤتون الزكاة ،ويوفون بعهودهم في التزاماتهم التعاقدية ،وعهودهم الاجتماعية .وهم الصابرون في حالة الشدة والرخاء وفي حالة الحرب .وهم الصادقون في إيمانهم ،وفي نياتهم ،وفي كلماتهم ،وفي مواقفهم ،وكل أوضاعهم مع أنفسهم ،ومع الله ،ومع الناس ،وذلك هو قوله تعالى:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقرة:177] ،وهم الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به{وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ الزمر:33] .
وتبقى للتقوى نتائجها في السماع للموعظة والإنذار من خلال حسِّ المسؤولية في ذلك{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ} [ المائدة:108] ،وفي إصلاح ذات البين وإطاعة الله ورسوله{فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [ الأنفال:1] .وفي الوقوف مع الصادقين{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ}[ التوبة: 119] ،لأن مسألة التقوى تفرض على المؤمن أن يتخذ الموقف المنسجم مع المجتمع الإيماني المتميّز بالصدق في حركة الصادقين مع الله ومع أنفسهم ومع الناس ،فإن ذلك هو الذي يعبّر عن إخلاص المؤمن لقيمة الصدق في الحياة ،وفي القول السديد الذي يمثل الكلام الذي يتميز بالمضمون الحق المتوازن في معناه ،وفي حركة الإنسان المرتكزة على الصواب الذي لا باطل فيه ولا خطأ في واقعه ،{فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [ النساء:9] ،{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [ الأحزاب:70] .وفي إطاعة القيادة الشرعية واتباعها في الاستجابة لله وللرسول ،والامتناع عن إطاعة غيرها{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [ الشعراء:107 108] ،{فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [ الشعراء:150151] ،وفي العفو عن المسيء{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [ البقرة:237] وفي العدل مع الأعداء{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [ المائدة: 8] ،وفي تعظيم شعائر الله{وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[ الحج: 32] ،وفي التناجي بالبر والتقوى{وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[ المجادلة:9] ،وفي ابتغاء الوسيلة إلى الله للحصول على رضوانه بالاقتراب من طاعته بالوسائل التي يحبها{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [ المائدة:35] .
القلق الإيجابي رفيق التقوى
إن روحيّة التقوى في الإنسان تفرض عليه أن يكون في حالة قلقٍ دائمٍ لاكتشاف كل الوسائل التي تؤدي به إلى الله في مسؤولياته العامة والخاصة ،لأن حركة الإنسان نحو أهدافه مرتبطةفي توازنهابالوسائل المنسجمة مع الأهداف ،وفي الانفتاح على حساب الأعمال التي يقدمها الإنسان بين يديه يوم القيامة في الموقف بين يدي الله ،وعلى الاستعداد لما يستقبل من أيامه في تأكيد أعماله المستقبلية في خطِّ التقوى{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [ الحشر: 18] ،وفي الموقف الذي يرفض الاستعلاء على الآخرين في إحساس مَرَضِيٍّ بالعلو الذاتي والكبرياء الشخصي عليهم ،كما يرفض الفساد ،فإن ذلك هو المظهر الحي للتقوى ،الذي يمنح المتقين العاقبة الحسنة في الدار الآخرة{تِلْكَ الدَّارُ الآخرةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [ القصص: 83] ،وفي امتداد الصداقة القائمة على التقوى من الدنيا إلى الآخرة ،بينما تتحول الصداقات إلى عداوات في العلاقات القائمة على المصالح الذاتية والأطماع الخاصة ،{الأخِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [ الزخرف: 67] .
خير الزاد التقوى
وتبقى التقوى خير الزاد للآخرين{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أوْلِي الأَلْبَابِ} [ البقرة:197] .وهي خير لباس للإنسان الذي لا بد له أن يفاضل بين لباس الجسد ولباس العقل والروح والسلوك ،لأن لباس الجسد قد يتّصل بحمايته من الحرّ والبرد ،ولكن لباس القيمة الروحية يمثّل الحماية من كلّ ما يؤذي قضيّة المصير ،ومن كل ما يسيء إلى أصالة إنسانية الإنسان{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [ الأعراف:26] .
وتبرز التقوى في القرآن كأساسٍ للكرامة وللقيمة عند الله ،فالناس متساوون في الخلق مختلفون في الخصائص التي أرادها الله وسيلة للتعارف من خلال تفاعل الخصائص وتبادل الخبرات من دون تفاضل ،ولكنّ التفاضل عند الله هو في التقوى{يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات: 13] .
الحصاد الإلهي للتقوى
وأمّا نتائج التقوى للمتقين{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [ هود:115] ،{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [ الطلاق:2 3] ،{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [ الطلاق: 4] ،{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [ الطلاق:5] .{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون} [ النور:52] .{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ *فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [ الدخان:5152]{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [ القمر:5455] ،{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [ الجاثية: 19] ،{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [ هود:49] .
وهكذا نجد أن التقوى تختصر الدين كله ،لأن الدين يمثل تقوى الفكر والعاطفة والحركة والموقف والموقع والعلاقات والتطلّعات والوسائل والغايات ،وهذا هو الذي يجمع معنى الدين في عقيدته وشريعته ومنهجه ،ولذلك كانت عنوان دعوات الأنبياء ،بحيث اختصرت الدعوات بكلمة «اتقوا الله ،وهذا ما عبرت عنه الآيات التالية كنموذجٍ متنوعٍ للأنبياء في دعوتهم الناس إلى الله{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [ الشعراء:106] ،{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [ الشعراء: 124] ،{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَلِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [ الشعراء:142] ،{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [ الشعراء:161] ،{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [ الشعراء:177] .
التقوى انفتاح عقلي وروحي وعملي على الله تعالى
وتبقى التقوى عقلاً وروحاً وقلباً وحركة وحياة تتجه إلى الله في خوف من الحساب على أساس العدل ،وفي حبٍّ له على أساس الربوبية الخالقة المنعمة الراحمة في كل آفاق العظمة اللامحدودة ،ولهذا فإنها لا تمثّل انسحاقاً إنسانياً يسقط الإنسان معها تحت تأثير الخوف المذعور ،بل ارتفاعاً بالإنسانية نحو العقل المسؤول ،والحركة المسؤولة التي تنطلق من خلال الإرادة الواعية القوية التي تقي صاحبها من السقوط تحت تأثير نقاط الضعف الإنساني في سلبياته التي تتحدّى سلامة المصير .