/م26
ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سَوءات البدن التي كان لها دور مهم في قصّة آدم ،إذ يقول: ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ) .
ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءآت ،بل للتجمل والزينة أيضاً حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه .( وريشاً ) .
وكلمة «ريش » في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ،وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ،لهذا أُطلِق على نوع من أنواع الألبسة ،ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها ،لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال ،هذا مضافاً إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سَرْج الفرس أو جهاز البعير .
وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضاً ،وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان ،ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة .
ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ،عن حدّ اللباس المعنوي تبعاً لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ،الظاهري والباطني إذ قال: ( ولباس التقوى ذلك خير ) .
وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ،معبّرٌ جدّاً ،لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ،ويقي الجسم عن الكثير من الأخطار ،ويستر العيوب الجسمانية ،وهو بالإضافة إلى هذا وذاك زينة للإنسان ،ومصدر جمال .كذلك روح التقوى ،فإنّها مضافاً إلى ستر عيوب الإنسان ،ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ،تعدّ زينة كبرى له ...زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّواً ،وتزيدها جلالا وبهاءً .
ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى ،وأنّه ما هو ؟
فبعض فسّره ب «العمل الصالح » و بعض ب «الحياء » و بعض ب «لباس العبادة » ،و بعض ب « «لباس الحرب » مثل الدرع والخوذة ،وحتى الترس ،لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية » بمعنى الحفظ والحماية ،وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضاً ،كما نقرأ في سورة النحل الآية ( 81 ): ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم ...) .
ولكن للآيات القرآنيةكما قلنا مراراًمعنىً واسعاً في الغالب ،ولها مصاديق متعددة ومختلفة ،وفي الآية الحاضرةأيضاًيمكن استفادة جميع هذه المعاني منها .
وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن ،لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى » التي تحفظ الإنسان ،وتنطوي تحتها معاني «الحياء » و«العمل الصالح » وأمثالهما .
ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية: ( ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ،سواء الألبسة المادية أو المعنوية ،اللباس الجسماني أو لباس التقوى ،كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى .
نزول اللباس !
نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر: «وأنزلنا » وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل ،إذ يقول: ( قد أنزلنا عليكم لباساً ) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يُتَّخَذ من الصوف ،أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض .
كما أننا نقرأ في الآية ( 6 ) من سورة الزمر ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) وفي سورة الحديد الآية ( 35 ) ( وأنزلنا الحديد ) .فماذا يعني هذا ؟
يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت ،مثلا يقولون: إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات ،من هنا تكون مواد اللباس قد نزلتبهذا المعنىمن السماء إلى الأرض .
وفي مجال الحديد أيضاً يقولون: إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض .
ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي ،وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيراً ،فيقال مثلا: أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه ،أو يقال: رفعت شكواي إلى القاضي ،لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني .
فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر ،لهذا عُبّرَ عن هذا المفهوم بهذا اللفظ ،وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة .
ويُشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضاً ،فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا ،ولكنّهلما كان من حيث الشأنيتمتّعِ بمقام مهمّ رفيع ،فإنّنا نشير إليه باسم الإشارة البعيد ،فنقول في محاوراتنا مثلا: تلك الشّخصية ،ونحن نقصد رجلا حاضراً قريباً ،وقد جاء في القرآن الكريم: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) .والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر ،ولكن تعظيماً له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة .
اللباس في الماضي والحاضر:
لم يزل الإنسان فيما مضىكما يشهد به التاريخيلبس الثياب ،ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن ،فقد كانت الثياب تلبس فيما سبقو في الأغلبلأجل حفظ الجسم من الحرّ و القرّ وكذا للزينة والتجمل ،والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة ،ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأُولى من الأهمية في كثير من الحقول ،فرجال الفضاء ورجال الإطفاء ،وعمال المعادن والمناجم والغواصون ،وغيرهم كثيرون ،يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار .
لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلا ،واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً ،بحيث أصبح لا يقاس بما مضى .
يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا: «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير ( قيصرها ) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان ،فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم ،ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه ،وأراد الخروج قدّموا له معطفاً ليلبسه تذكاراً لهذه الزيارة ،وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله ،فهم قد نظفوه في الآلات المنظِّفة ،فغزلوه بآلات الغزل ،فنسجوه بآلات النسج ،ففصَّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة ،فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور » .{[1369]}
ولكنللأسفقد اتسعت الجوانب الفرعية ،بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة و تعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس .
لقد أصبح اللباساليوموسيلة لأنواع التظاهر ،وإشاعة الفساد ،وتحريك الشهوات ،والتكبر والإسراف والتبذير ،وما شابه ذلك .حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناسوبخاصّة الشباب المتغربيفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني ،وتكون أشبه بكل شيء إلاّ باللباس والثوب .
والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة ،هو أنّ للعُقد النفسية دوراً مهمّاً في ارتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة ،فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم و ملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بارتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم ،ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة ،أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من ارتداء مثل هذه الثياب .
وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّاً تهدر و تبدّداليومفي سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها و تبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها ،ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية .
هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها ،إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفداً من النصارى قدم على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة ،وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جداً ،والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها ،فلما حضروا عند رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) سلموا عليه ،لم يردَّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) على سلامهم ،بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة ،وأعرض عنهم ،فلمّا سألوا عليّاً( عليه السلام ) عن سبب إعراض النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنهم ،قال( عليه السلام ) لهم: أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكم ثمّ تعودون إليه .
ففعل النصارى ما قاله لهم الإمام( عليه السلام ) ،ثمّ دخلوا على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم .ثمّ قال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرّة الأُولى وإنّ إبليس لمعهم »{[1370]} .