{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ،هي دار الحياة المسؤولة في ما يفعله الإنسان من خير أو شرّ ،وهي دار الموت الذي تخمد فيه شعلة الحياة ،وهي الدار التي يُبعَثُ فيها الإنسان من قبره ليواجه نتائج المسؤولية ،في ما خلّفه وراءه من أعمالٍ وعلاقاتٍ ومواقفٍ .
لماذا أسكن الله آدم وحواء الجنة ؟
إننا نعرف من قصة بدء الخليقة في خلق آدم في سورة البقرة ،أن اللهسبحانهقد خلقه ليكون خليفة في الأرض ،الأمر الذي قد يفرض وجوده في الأرض من البداية ليمارس دوره في الخلافة ،فكيف أسكنه الله وزوجه الجنة كما لو كانت مستقراً لهما ؟
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الجنة ليست الموعودة ،بل هي جنةٌ أرضيةٌ من جنان الدنيا كما جاء في تفسير البرهان عن علي بن إبراهيم قال:«حدثني أبي ،رفعه ،قال: سُئل الصادق( ع ) عن جنة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ،ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً .
قال: فلما أسكنه الله تعالى الجنة وأباحها له إلا الشجرة لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح ،ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق ،فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبداً ،وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة ،وحلف لهما إنه لهما ناصحٌ ،كما قال الله عز وجلحكاية عنه:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} .فقبل آدم قوله ،فأكلا من الشجرة ،فكان كما حكى الله:{بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا} وسقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنة ،وأقبلا يستتران من ورق الجنة ،{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فقالا:كما حكى الله عنهما:{رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فقال الله لهما:{اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ،قال: إلى يوم القيامة » .
ونلاحظ على هذه الرواية أولاً: أنها ضعيفة السند لأنها مرفوعة ،فلم يتّصل السند بالإمام ،وثانياً: أنها مخالفة لظاهر القرآن بأن الجنة التي أسكن الله آدم فيها هي الجنة الموعودة بلحاظ السياق القرآني من جهة ،وتحذير بني آدم من الشيطان الذي أخرج أبويهم منها ،حتى لا يخرجهم منها أيضاً بسبب وسوسته ،من ناحية أخرى ،مما يوحي بأن الجنة هي التي وعد المتقين بها ،لأنها هي التي تتناسب مع التحذير لهم حتى لا تتكرر التجربة ،ثم التعبير بقول الله تعالى:{قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} دليل علىذلك .
ولعل الأقرب إلى جوّ القصة القرآنية ،أن الله سبحانه وتعالى أراد إقحام آدم( ع ) في تجربة واقعية تحدد له المعالم والخطوط العريضة ،لما يمكن أن يكون عليه من حياة هنيئة وسعيدة ،ولما يمكن أن يصبح عليه من حياة تعيسة ونكدة ،وذلك من خلال تجربة العلاقة مع إبليس الذي أريد له أن يرافق مسيرته وبنيه في الأرض في عملية وسواس وتزيين وإضلال ،لما من شأن الاستجابة له ،والوقوع في فخه ،أن يشكلا السبب للوقوع في معصية الله ،وولوج دائرة غضبه وسخطه ،في حين أن عدم الاستجابة له يشكل سبباً لولوج دائرة رضوان الله تعالى ورحمته .وهكذا تصبح هذه التجربة درساً يستحضره آدم( ع ) دائماً في حياته ليستقوي به في مواجهة إغواءات إبليس وسواه وبالتالي لنيل رضوان الله تعالى .
ثم ليتعرف بعض الأساليب المنحرفة التي لم يكن له عهد بها من قبل ،وهو أسلوب الكذب ،بطريقة القسم المغلّظ ،من قبل إبليس ،وهذا هو ما يوحي به الحديث المأثور عن الإمام الصادق( ع ) في رواية علي بن إبراهيم عنه ،قال: «لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل ،فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده ،ونفخ فيك من روحه ،وأسجد لك ملائكته وزوجك حوّاء أَمَتَهُ ،وأسكنك الجنة وأباحها لك ،ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة ،فأكلت منها وعصيت الله ؟فقال آدم: يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله إنه لي ناصح ،فما ظننت أن أحداً من خلق الله يحلف بالله كاذباً » .
قراءة ( مَلِكين ) بكسر اللاّم
جاء في مجمع البيان: «روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأ «ملِكين » بكسر اللام ،قال الزجاج: قوله:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} [ طه:120] يدل على ( الملِكين ) » .والسؤال هل يكفي ذلك في الدلالة على صحة هذه القراءة ؟
والجواب ،إنّ ذلك لا يكفي في الدلالة ،لاحتمال أن تكون تلك الآية واردة في تأكيد الخلد باعتبار اختزانه لقضية الموقع المميز في الملك بلحاظ أنه من توابعه ،مع ملاحظة أخرى ،وهي أن كلمة «ملِكين » بكسر اللام تعني السلطة على مخلوقاتٍ حيّةٍ ومواقع محدّدةٍ ،وهذا ليس وارداً في حسابات الجنة ،أو في احتمالات آدم في أحلامه المستقبلية التي يحاول إبليس أن يداعب فيها خياله .
وقد ذكر صاحب الميزان أن كلمة «الملَك »بالفتحتختزن معنى المُلكبالضم والسكونمستدلاً بآية سورة طه[ 5] ،وهو غير واضح .وقد ورد تأكيد قراءة ( الملَكين )بالفتحفي رواية ذكرها القمي في تفسيره عن الإمام الصادق( ع ) وفي ( عيون أخبار الرضا ) عن الإمام علي بن موسى الرضا( ع ): «فجاء إبليس فقال: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبداً وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة » .
آدم وحواءمعاًفي موقع المسؤولية السلبية والإيجابية
جاء في التوراة أن حواء هي أصل الإغواء ،وهي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة ،وأنها كانت وسيلة الشيطان لإقناع آدم ،الأمر الذي يوحي بأن المرأة هي العنصر الإغرائي الذي يستخدمه الشيطان لإغواء الرجل فيكون ضحيةً لها في هذا الجانب .
أمّا القرآن ،الذي هو الكتاب المعصوم من التحريف الذي{لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [ فصلت:42] ،فإنه لا يتحدث عن أيّة حالةٍ سلبيةٍ للمرأةحواءفي إغواء الرجلآدمفليست هناك أيّة مشكلة في علاقتهما ببعضهما البعض في حياتهما المشتركة ،بل يتحدث عن أن التكليف كان موجهاً إليهما معاً على أساس المسؤولية المستقلة لكل واحدٍ منهم ،وإذا كان الخطاب الأول لادم فقد أضاف إليه زوجه{ويا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وأباح لهما الأكل من حيث شاءا وخاطبهما معاً بالنهي عن الأكل من الشجرة{فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} .
وكانت وسوسة الشيطان لهما معاً ،فلم يخاطب حوّاء وحدها في وسوسته ،بل وسوس إليهما معاً{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} فكانا ،معاً ،ضحية وسوسته وخداعه ،وقال:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} وحلف لهما معاً بعد أن رأى ترددهما في الاستجابة له ،أو هكذا توحي القصة ،{وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} .وهكذا أسقطهما ودلاهما بغرور ،فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وشعرا بالخزي والعار أمام هذه المعصية معاً{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَاكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وكان النداء لهما معاً من خلال أنّ كل واحد منهما يتحمل المسؤولية في العصيان والاستسلام لخداع الشيطان بشكل مستقلٍّ من دون أيِّ ارتباط بالآخر أو أيّة علاقة له به ،ولو كانت المسؤولية لأحدهما ،حواء ،دون الآخر ،آدم ،لأمكن له أن يعتذر بخضوعه لزوجه التي استعملت الضغط العاطفي عليه لإسقاطه ،تماماً كما يحمِّل التابعون المتبوعين تبعة ما فعلوه ،ولما شعرا بالموقف الصعب أمام الله ،تابا معاً وانقطعا إليه{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وهكذا نجد القرآن لا يحمّل المرأة المسؤولية عن سقوط آدم أمام التجربة ،بل يحمِّل المسؤولية للرجل والمرأة على حدّ سواء ،للإيحاء العميق بأن للرجل خياره في الطاعة أو المعصية ،كما للمرأة خيارها ،لأن الله خلق لكل منهما عقلاً يدرك الحسن والقبح ،وإرادة تملك الصلابة في الموقف ،فهما يقفان على قدم المساواة في خط المسؤولية .
وإذا كان الله قد تحدّث عن آدم في آية أخرى بلفظ المفرد في قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}[ طه:115] فليس ذلك إبعاداً لحوّاء عن المسؤولية ،بل هو ،بلحاظ بعض المناسبات ،تذكير بموقف آدم من حيث هو مظهر الإنسان الذي يخضع لضعفه البشري لا بلحاظ شخصه ،والله العالم .
وهكذا ينصف القرآن المرأة ليرتفع بموقعها إلى موقع الرجل ولا يحمِّلها مسؤولية إغواء الرجل ،كما هو الواقع الخارجي ، فنحن نرى أن الرجل قد يغوي المرأة في بعض الحالات كما أن المرأة تغويه في حالات أخرى .
إيحاءات كلمة «الشجرة »
ليس هناك برهان ثابت على نوعية هذه الشجرة ،فالنصوص المأثورة تذهب في هذا المورد مذاهب شتى ،فمنها من يرى أنها شجرة الحنطة أو التفاح ،من خلال التفسير المادي لها ،ومنها من يرى أنها شجرة الحسد الذي ربما عاشه آدم أمام بعض المخلوقات المقرّبة من الله بدرجة أرقى منه ،ممّا جعله يختزن المشاعر المضادّة لها كأيّ حاسد تجاه أيّ محسود ،ومنها من يرى أنها شجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة ،كما تقول التوراة: إن آدم لم يكن عالماً ولا عارفاً قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة ،حتى أنه لم يعرف ولم يميّز عريه ،وعندما أكل من تلك الشجرة ،وصار إنساناً بمعنى الكلمة ،طرد من الجنة خشية أن يأكل من شجرة الحياة فيخلد كما الآلهة ...هذا في الجانب المعنوي من التفسير .
ولكننا نلاحظ أن قصة الحسد ليست واردة في حسابات آدم الذي لم ينفتح ،في ما يبدو ،على العنصر الذاتي في شخصيته تجاه الآخرأيّاً كانبل كانت المسألة ،من خلال وحي القرآن ،مسألة أحلامه الذاتية التي أثارها الشيطان في داخل ذاته مما يتصل بخلوده وارتفاعه إلى عالم الملائكة الذي اطلع عليه في تجربته في بداية خلقه ،هذا مع ملاحظة أن الحسد لا يتحرك من الغريزة الذاتية المجردة ،بل ينطلق من اصطدام الإنسان بالآخر من خلال التجربة المعقّدة في الحياة وفي المواقع المميزة التي يملكها هذا الشخص أو ذاك ،مما يعطل مصالح بعض من البعض الآخر ،أو يتفوق عليه في رغباته الحسية والمعنوية ،ولم تكن لادم تجربة سابقة في ذلك ،ولم يعش في أيّ مجتمع ينفتح على مثل هذه الحالة الواقعية التي تؤدي إلى تلك الحالة النفسية .
أما شجرة العلم والمعرفة ،فقد حدثنا الله في القرآن أنه منحه علم الأشياء ،وذلك هو قوله تعالى:{وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} [ البقرة:31] ،وربما نستوحي هذا المعنى من قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [ طه:115] ،حيث توحي بأن هناك عهداً من الله لآِدم في مهمّاته ومسؤولياته مما يدخل في نطاق الوعي المعرفي الذي يطل به على آفاق الحياة ،فلم يكن آدم جاهلاً بنفسه أو بموقعه أو بمسؤوليته ،ولكنه غفل عن ذلك أو نسيه في غمرة الضعف البشري ،ولذلك فقد يكون الأقرب إلى ظهور الآية حمل الكلمة على ظاهرها وهو الشجرة بالمعنى المادي الحسّي ،من دون أن ندخل في تحديدها ،لأنه ليس دخيلاً في الجانب التفسيري ،لأن من الممكن أن يكون المنع متعلقاً بشجرة معينة ،لا من جهة خصوصيتها بل من جهة أنها نموذج للممنوع الذي يمثل العنصر المحرّم الذي يواجه الإنسان أمامه مسؤولية الالتزام في قوّة الإرادة ،باعتبار أنّ المنع قد يجتذب الرغبة ،فيكون الموقف موقف امتحان واختبار لإرادة الالتزام .
رمزية الشجرة لكل حرام
وعلى ضوء ذلك ،قد نستوحي أن الشجرة المحرمة ترمز إلى كل حرام أراد الله للإنسان أن يتركه ،فقد أحل الله له الطيبات مما يأكل أو يشرب أو يتلذذ أو يلبس ،وحرّم عليه بعض الأشياء المتصلة بسلامته المادية المعنوية ،ولكنه أكل ،ولا يزال يأكل ،من شجرة الحرام ،في الحرام ،في حاجاته والمتنوعة ،الأمر الذي يعرضه للطرد من الجنة في الآخرة ،ومن السعادة في الدنيا ،وهذا مما لا بد للإنسان أن يعيه وعياً عميقاً واسعاً منفتحاً على المصالح والمفاسد التي تتصل بحياته من الناحية الإيجابية والسلبية على مستوى الدنيا والآخرة ،لأن قضية الخضوع للحسّ في حاجاته ليست قيمةً إنسانيةً ،بل القيمة هي حماية الإنسان في إنسانيته المنفتحة على رضوان الله ونعيمه في الدنيا والآخرة ،مما يفرض عليه الدخول في عملية مقارنةٍ بين النتائج الإيجابية الحاصلة من الامتناع عن المحرمات والاكتفاء بالمحلّلات ،والنتائج السلبية الحاصلة من الإقبال عليها ،وهذا هو ما ترمز إليه قصة آدم الذي ترك أشجار الجنة التي تحفل بأفضل المشتهيات وألذّها وأحلاها ،واستغرق ،بوحي وسوسة إبليس ،في هذه الشجرة المحرّمة التي قد لا يكون لها أية ميزة ذاتية .
إيحاءات ردود فعل آدم وحواء على ظهور سوآتهما
أما مسألة ظهور السوأة لهما ،الذي كان هدف إبليس في إيقاظ الجانب الجنسي في إحساسهما من خلال ارتباط الأكل من الشجرة المحرّمة بالوقوع تحت تأثير الضعف الإنساني الغريزي الكامن في الجسد الذي استيقظ في حيويته الفعلية بالتجربة الجديدة ،فإنه يوحي بأنّ السقوط في تجربة الاستغراق في الشهوة في جانب ،قد يؤدي إلى الوقوع في تجربةٍ ثانيةٍ أو إلى الانفتاح على عالم الشهوات ،مما قد يثير في النفس بعض المشاعر والأحاسيس الحميمة الخفية التي قد تعدّ الإنسان للوقوع في الحرام .
وربما كان لهذه الحركة الفطرية في إلقاء ورق الجنة على عورتيهما ليخفياهما علاقة بالحس الفطري الذي يختزنه الإنسان في الرغبة في إخفاء العضو الجنسي الذي أراد الله للإنسان أن لا يبديه ،وأن لا يمارس حركة حاجاته في العلن .
وقد يكون الرمز الإيحائي في هذه القضية هو أن الإنسان الذي يلجأ إلى تغطية نقاط ضعفه عندما تفرض عليه الظروف أو الأوضاع إظهارها ،لأنه يحاول دائماً الظهور أمام الناس بمظهر القويّ الذي يملك عناصر القوة في شخصيته من دون أية حالة ضعف ،في حين عليه أن لا يكتفي بإخفاء عناصر ضعفه ،بل ينبغي له أو يجب عليه معالجتها وإلغاءها من كيانه وإبعادها عن حياته ،لأن الله يريد للإنسان أن يأخذ بأسباب القوة الروحية ،كما المادية ،في شخصه ،ليعيش القوة في وجوده ،وليستعين بذلك على الاستقامة في التزاماته العملية من حيث علاقتها بقضية المصير المادي والمعنوي في الدنيا والآخرة .
ولقد كانت محاولة آدم وحواء في تغطية عورتيهما تستهدف إبعاد هذا الإحساس الجنسي عن الحركة الحرّة التي تتمثل في ظهورهما أمام الناظرين ،الذي قد يتجه في نهاية المطاف إلى الانحراف ،مما يعني بأن على الإنسان أن يقيّد بعض حرياته لمصلحة سلامة حياته في قضاياها القيمية الحيوية .
تأثير المعصية في آدم وحواء
لقد تحدث آدم وحواء ،في ابتهالاتهما إلى الله ،عن حالة ابتعادهما عن مصلحتهما في الانسجام مع تعليمات الله الصادرة إليهما ،فقد اكتشفا مدى الضرر الذي ألحقاه بنفسيهما من هذه الاندفاعة اللاشعورية نحو الأكل من الشجرة المحرمة ببسب وساوس الشيطان الذي أخبرهما الله عنه بأنه عدوّ مبين لهما منذ رفض السجود لآدم حسداً وتكبراً وطغياناً ،وأعلنا أنهما ظلما نفسيهما وطلبا الرحمة والمغفرة من الله حتى لا تكون الخسارة خسارة الذات في امتدادها في الحياة ،بل تكون خسارة الفرصة التي قد تتبدل بالربح في فرصة أخرى .
وقال لهما الله ،ولإبليس: إن الأمر قد حُسم في قضاء الله وقدره في هبوط الجميع إلى الأرض ،فقد تمت التجربة وأخذ الإنسان الدرس العملي في موقفه من إبليس وعرف كيف يخطط الطريق للعودة إلى الجنة بالفكر والعمل ،من خلال نجاحه في الصراع المرير مع الشيطان الذي أعلن عداوته الحاقدة الحاسدة منذ البداية لإبعاده عن الله وعن الدخول في الجنة من جديد ،فما دام الله قد حرمه منها بسبب آدم ،فليكن الحرمان شاملاً لآدم وذريته بما يخطط من وسائل ومكائد ووساوس وخداع ،وهكذا أراد الله لهم جميعاً أن يهبطوا إلى الأرض ليعيش الإنسان الصراع المرير مع عدوه إبليس الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ،وذلك بأن يعدهم ويمنيهم ،وما يعدهم إلا غروراً .وتبقى الأرض مستقرهم الطبيعي الذي خلقوا له وأريد لهم أن يتمتعوا فيها إلى يوم القيامة في رحلة الحياة والموت والبعث .
وقال لهم الله:{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .