قوله تعالى:{وإن احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون}{أحد} ،فاعل لا مبتدأ ،مرفوع بفعل مقدر دل عليه الظاهر .وتقديره: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ؛لأن ( إن ) الشرطية تقتضي الفعل{[1726]} .واستجارك أي سألك جوارك ،والجوار معناه الأمان والذمام والعهد{[1727]} .وكلام الله يراد به القرآن .فيكون المعنى: إذا استأمنت ،أو طلب منك الأمان والذمام أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع منك القرآن عسى أن يعلمه ويتعظ به ،فإن آمن به وصدق فحسن ،وإن أبي ولم يتعظ مما سمعه منك ؛فرده إلى مأمنه حيث يقيم ويأمن ؛وهو أن يلحق بداره وقومه من المشركين .
على أن ذلك فيمن يأتي المسلمين مبتغيا سماع القرآن والوقوف على منهج الاسلام وتعاليمه .أما الذي يأتي للتجارة أو مصالحه الأخرى فللمسلمين أن ينظروا في إجارته أو عدمها تبعا لما تقتضيه مصلحهم{[1728]} .
ويستوقفنا مثل هذا المعنى حواه القرآن الحكيم ،إذ يوجب أن تعطي الفرصة كاملة للمشركين والضالين كيما يستمعوا إلى رسالة الإسلام استماعا مباشرا وعن كثب من أجل أن تطرق أسماعهم وأفئدتهم حقائق هذا الدين الكريم المفضل بما يحمله للبشرية من معالم رصينة في الأخوة والرحمة والمنطق السليم ،وقواعد ثوابت في الحق والخير والعدل .ومقتضى ذلك: أن الكافر المرتاب الذي يتيه في جهالته المطبقة للإسلام والذي تحيط به المعوقات والفتن والشبهات المصطنعة والمفتراة على الإسلام –إذا جاء يطلب الحجة من المسلمين على حقيقة دينهم وصدق رسالتهم ،قبلوه وعرضوا عليه منهج الإسلام بعقيدته السمحة المرغوبة ،وشرعه المتكامل الميسور ،وتصوره المحبب الرائع الذي يتفق وفطرة البشر وطبائع الناس وينسجم وطبيعة هذا الكون الرتيب المتسق .لا جرم أن ذلك برهان ساطع على تكريم الإسلام للإنسان مسلما أو غير مسلم .وتكريم الإنسان المسلم معلوم في تصور الإسلام .وفي تشريعه الكبير .وكذلك غير المسلم ؛فإن الإسلام يحقق له من الأسباب والذرائع الحسية والذهنية ما يفضي إلى إقناعه في حرية موفورة وتودد بالغ ،ويكشف اللبس والشبهات عن ذهنه وبصيرته بالحجة الواعية الكافية والمجادلة الحكيمة المستفيضة حتى يستيقن غير المسلم روعة هذا الدين وأنه الحق المبين المنزل من عند الله هداية الناس كافة .
من أجل ذلك شرع الأمان للمشركين في كل الأحوال كيما يتمكنوا من الدخول على المسلمين فيتعلموا منهم حقيقة هذا الدين عسى أن يهتدوا .على أن الأمان من حيث إعطاؤه يناط بكل واحد من آحاد المسلمين سواء كان رئيسا أو مرؤوسا ،ذكرا أو أنثى ،حرا أو عبدا .فأيما مسلم يجوز له أن يعطي الأمان لأحد المشركين ليلج عليه فيوفقه على مزايا هذا الدين وتعاليمه .
قال صاحب الكشاف .وهذا الحكم ثابت إلى ثوم القيامة .قال الحسن البصري: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة .
قوله:{ذالك بأنهم قوم لا يعلمون} ذلك عائد إلى الإجازة ؛أي ذلك الأمر بإجارة المشركين كان بسبب كونهم جهلة لا يعلمون عن الإسلام شيئا ،أو يعلمون عنه ظاهرا مصطنعا من المفاهيم المشوهة والأخبار الملفقة تلفيقا .أما حقيقة الإسلام بنصوعه وروعة نظامه الرحيم الشامل ؛فلا يدرك منه المشركون شيئا{[1729]} .