قوله تعالى:{فإذا انسلخ الأشهر الحرام فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} انسلاخ الأشهر الحرم ؛أي مضيها .سلخت الشهر: أمضيته وصرت في آخره{[1722]} .
واختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنها الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ؛فهي ثلاثة سرد ،وواحدا فرد .وعلى هذا المعنى وجب الإمساك عن قتال من ليس له عهد من المشركين حتى انسلاخ الأشهر الحرم وهي مدة خمسين يوما ؛لأن النداء بذلك كان يوم النحر ؛فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي المسودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر محرم .وقد أمرهم الله بعد مرور هذه المدة أن يتقلوا المشركين حيث يجدونهم .وهو قول جماعة ،وهي رواية عن ابن عباس .
القول الثاني: إن المراد بها شهور العهد وهي الأربعة المشار إليها في قوله:{فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} وسميت حرما ؛لأن الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين أو التعرض لهم بأذى .
القول الثالث: إنها الأشهر المذكورة في قوله:{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} وهي رواية أخرى عن ابن عباس ،وقول جماعة آخرين .
قوله:{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} المشركون عام في كل مشرك .لكن هذا العموم مخصوص بالسنة ؛فخرج من المشركين في وجوب القتال كل من النساء والصبيان والرهبان والعاجزون عن القتال لهرم ونحوه .وقد مر تفصيل هذه المسألة في سورة البقرة .وهو كذلك مخصوص بأهل الكتاب ؛فإنهم يجوز لهم أن يعقد لهم المسلمون عقد الذمة على أن يؤدوا الجزية .
قوله:{حيث وجدتموهم} أي في كل موضع يجدونهم فيه .وقيل: هذا عام وقد خص بتحريم القتال في الحرم .وهو قول أبي حنيفة محتجا بقوله تعالى:{ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإنه قتلوكم فاقتلوهم} .
قوله:{وخذوهم واحصروهم} المراد بالأخذ هنا ،الأسر ،فإن أسروهم ؛قضوا فيهم ما يرونه أصلح ،سواء في ذلك المن أو الفداء أو القتل .وذلك منوط بالإمام ومعه الفئة الظاهرة من أهل العلم والاجتهاد .
أما حصرهم: فالمراد به منعهم من الخروج أو التصرف في البلاد .
قوله:{واقعدوا لهم كل مرصد}{كل} ،منصوب ،على الظرف{[1723]} والمرصد ،هو موضع الرصد .ومنه الرصد ؛أي الراقب .والترصد معناه الترقب{[1724]} والمراد بالرصد هنا ؛الموضع الذي يرقب فيه العدو ؛أي اقعدوا لهم على كل طريق يمضون فيه إلى البيت أو الصحراء أو التجارة .
قوله:{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} أي تابوا عن الشرك وخلعوا عن أنفسهم هوى العبودية لغير الله من الأصنام ونحوها .فآمنوا بالله ورسوله .وثمة شرطان آخران مضافان للإيمان بالله ورسوله لتتحقق التوبة الصحيحة فيخلى المسلمون سبيلهم .أولهما: الصلاة .ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة أو سائر الفرائض استحلالا أو جحدا ؛فقد كفر .أما من تركها من غير جحد لها ولا استحلال ،بل على سبيل التهاون والتثاقل أو الكسل ؛فإنه يكون فاسقا لكنه يقتل حدا وعقوبة ،في قول مالك والشافعي ؛ويقتل كفرا ،في قوله أحمد وإن لم يكن جاحدا لها .وقال أبو حنيفة: لا يقتل بل يسجن ويضرب حتى يصلي .
وثانيهما: الزكاة ؛فغنها تؤخذ من ذوي النصاب قسرا إن أبوا ،ويقاتلون عليها قتالا إن منعوها ؛فهي اشرف أركان الإسلام وواجباته بعد الشهادة والصلاة لما فيها من منفعة للفقراء والمساكين والمحاويج .
ولهذا اعتمد الصديق ( رضي الله عنه ) في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية ،وعلى غيرها من أدلة السنة .ومنها ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ،ويقيموا الصلاة ،ويؤتوا الزكاة ) .
قوله:{فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} أي إن تحقق الشرط وهو توبتهم عن الشرك وأداؤهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ؛فدعوهم يتصرفون في بلادكم ويدخلون البيت الحرام ؛فغن الله يغفر لمن تاب عن الذنوب وأناب إلى ربه بالطاعة وحسن العبادة .ذلكم وأن الله رحيم بعباده يتجاوز عن سيئاتهم وخطيئاتهم ،ويسكنهم فسيح جناته ،ويغشاهم بفضله ورضوانه{[1725]} .