قال تعالى:
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 ) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ( 6 ) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 7 ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( 8 )
قوله تعالى:{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} يقال:سلخت الشهر إذا صرت في آخر أيامه ، أي إذا مضت الأشهر الحرم وانتهت ، والأشهر الحرم يقول الزمخشري:إنها التي حرم الله فيها القتال من وقت الحج الأكبر وهي من عشرة ذي الحجة ، وهي أربعة تنتهي بعشرة من ربيع الأول ، ولم يذكر أنها الأشهر الحرم الأربعة المذكورة في قوله تعالى:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ . . . . . . . ( 36 )} وقد بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، الثلاثة ذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ، والواحد الفرد رجب الذي بين جمادى وشعبان .
والأكثرون على أن الأشهر الحرم في هذه الآية هي هذه الأربعة التي بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وانسلاخها أي يكون القتال فيما عداها ، سواء أكانت بعد انتهاء الثلاثة السرد أم بعد انتهاء رجب ، أ ي لا قتال في الثلاثة ، ويجوز القتال بعدها إلى رجب ، ثم يستأنف بعد رجب ؛ وذلك ليكون الطريق إلىة الحج مأمونا ، ولتكون بين المتقاتلين هدنة ترجع فيها القضب إلى أجفانها ، وتستيقظ العقول ، ولقد قال تعالى:{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل . . . . . . . . . . ( 217 )} ( البقرة ) .
ويقول تعالى:{ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} لأنه قد أصبح دمهم مباحا ، فقد نقضوا العهد ، ولم يدخلوا في الإسلام ، وقد تحدوا الله ورسوله ، وأشركوا ، والعلاقة في أصلها كانت حربا انتهت بالعهد فنقصوه ، وقد أعطاهم مهلة ساحوا فيها في الأرض آمنين ، ولم يحدثوا توبة ورجعوا إلى الحق ، فلم يبق إلا القتال . وقوله تعالى:{ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} يشمل الحل والحرم ؛ لأنهم ممنوعون من المسجد الحرام ، وهم مقاتلون ، والله تعالى يقول:{. . . . . . . . . . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه . . . . ( 191 )} ( البقرة ) .
{ وخذوهم} أي شدوا الوثاق ، فقد أثخنتموهم ، وغلبتم عليهم فلكم أن تأسروا منهم من تشاءون ،{ واحصروهم} أي امنعوهم من التقلب في البلاد ، وعن ابن عباس:أي امنعوهم من المسجد الحرام لا يدخلوه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ربه قرر ألا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
ثم قال تعالى:{ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي في كل ممر ، يعني اتخذوا القتل والتتبع المستمر لهم في كل ممر ، وكل مرصد ( ظرف ) أي اقعدوا لهم في كل مكان مترصدين لهم ، لا ينجون منكم ما داموا على كفرهم ، والله تعالى يفتح باب التوبة دائما ، ولذا قال تعالى:{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} التوبة هنا ترك الشرك ، وذكر الله التوبة ، وذكر بعدها إقامة الصلاة ؛ وإيتاء الزكاة ؛ لأن هذا يجعل الإيمان صادقا من غير نفاق وفيه خضوع لأوامر الله تعالى واتباع لأوامره ، ونواهيه ، ولأنه لا بد للإيمان من شواهد . وقال في جواب الشرط{ فخلوا سبيلهم}أي افتحوا الطريق أمامهم ، ولا ترهقوهم بقتل ولا أسر ، ولا منع من البيت ، وعن ابن عباس:دعوهم وإتيان المسجد الحرام .
وختم اله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:{ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إن الله تعالى كثير المغفرة وكثير الرحمة ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى غفرانه ورحمته ب ( إن ) الدالة على التأكيد ، وبالجملة الاسمية ، وبصيغ الصفة المشبهة الدالة على الدوام والاستمرار لغفرانه ورحمته .