وإن الله العادل الحكيم قد استثنى من المشركين من لهم عهود راعوها حق رعايتها فقال:{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 4 )} .
الاستثناء في قوله تعالى:{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ، قال الزمخشري:الاستثناء من{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر} . وأرى أن الاستثناء من الذين تبرأ الله من عهدهم ونبذه إليهم في قوله تعالى:{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ( 1 )} ، فكان الاستثناء من هؤلاء أي أن الله بريء من عهد هؤلاء ؛ لأنهم خاضوا في عهدهم ونقضوه ، وقد رأيت أنهم بادروا بالنقض عندما أخبرهم علي كرم الله وجهه أنه لا يدخل البيت الحرام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . . . فبادروا بنقض عهودهم ، وقالوا ليس بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن بالرماح ، والضرب بالسيوف .
أما الذين وفوا بعهودهم ولم ينقضوا شيئا منها ، ولم يظاهروا عليكم أحدا فعهدهم باق مستمر ، وليس الكفر وحده ؛ فقد كان التعاقد وهم كفار وهذا قوله تعالى:{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} والتعبير ب ( ثم ) للدلالة على دوام وفائهم ، وأنهم مع كونهم عرضة للنكث والنقص كإخوانهم المشركين ضبطوا أنفسهم ولم ينكثوا في عهدهم ، ولم ينقصوا المسلمين – مع بغضهم لأهل الإيمان – شيئا من شروط العهد ، بل وفوا به حق الوفاء ، والوفاء جدير بالوفاء من أهل الإيمان كما قال تعالى:{. . . . . وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 )} ( الإسراء ) ، وكما وصفهم الله تعالى بأنهم لم ينقصوكم شيئا مما عاهدوا عليه – ذكر وصفا دالا على الوفاء والمبالغة فيه ، فقال تعالى:{ وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أي لم يعاونوا أحدا من أعدائكم بأن يكونوا في ظهره يدفعونه إلى اللجاجة في عهدكم كما فعل بنو النضير وقريظة ، وغيرهم من أعداء الله الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ظاهروا المشركين ، وعاونوهم ، واظهروا عورات المؤمنين .
وهناك في قوله تعالى:{ لم ينقصوكم} بالصاد المهملة قراءة أخرى بالضاد المعجمة ( 1 ){[1201]} ، أي لم ينقضوكم شيئا من النقض ، ولو في جزئية من جزئيات العهد أي وفوا وفاء كاملا لا نقص فيه .
وقال تعالى:{ فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي أنهم إن وفوا ولم ينقصوا عليكم فأوفوا لهم ، وأتموا عهدهم إلى مدتهم . وأضاف العهد إليهم باعتبار أن متعة الانتفاع بالعهد لهم ، وأضاف المدة إليهم لأنهم الذين ينتفعون بهذه المدة كما انتفعوا بالعهد ذاته ، ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:{. . . . . . . . إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 4 )} أي الذين يتقون الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب النار وقاية ، ومن التقوى الوفاء بالعهد ، فهي تعليل للاستثناء ، وتمام العهد أن الوفاء في العهد من تمام التقوى ، ومن فضل الأقوياء .
هذا شأن الذين وفوا بعهودهم ، أما الذين لم يوفوا بعهودهم فإنهم يسيحون أربعة أشهر يحرم فيها القتال ، وبعد ذلك يكون القتال .