{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 3 )} .
قوله تعالى:{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} الواو عاطفة ( أذان ) على ( براءة ) ، وبراءة هي براءة الله من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من المشركين لنكثهم عهدهم ، كما أعلنوا ذلك لعلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنهم لا أيمان لهم ، ولا عهد لهم .
أما الأذان فهو الإعلام ، وهو بمعنى الإيذان ، كالعطاء بمعنى الإعطاء وهو إعلام الناس جميعا من كان معاهدا ونكث ، ومن لم يكن عاهد من المسلمين ، وهو إلام بالبراءة من المشركين ، ولذا كان موضوع الإعلام أن الله برئ من المشركين ورسوله ، فلا عهود لهم إن نكثوها ولا عهود لمن لا عهد له من قبل ، إلا إن استقاموا عليه ولم يظاهروا على المؤمنين .
{ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بالفتح على تقدير الباء ، والمعنى إيذان بأن الله بريء من المشركين ، وحذف الباء قبل أن . وهذا كثيرا في كلام العرب ، وقرئ بكسر إن ( 1 ){[1197]} لأن الإيذان يتضمن معنى القول و ( إن ) تكسر بعد القول .
{ ورسوله} بالرفع معطوفة على اسم ، وهو لفظ الجلالة ، وإن ذلك جائز إذ يعطف على اسم بالرفع إذا كان الخبر قد تم ، ويقول الزمخشري:إنه يعطف على الضمير المقدر في ( برئ ) ، وهو اختلاف لفظي لا جدوى فيه من حيث المعنى .
وإن الإعلام الذي أعلمه الله ورسوله للمشركين هو ما روي عن علي رضي الله عنه:( فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال:كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ببراءة – فقال:ما كنتم تنادون به ؟ قال:كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان ، وما كان بينه وبين رسول الله عهد فإن أجله أو أمده إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ، ورسوله ، ولا يحج إلى هذا البيت بعد العام مشرك ) ( 1 ){[1198]} والرواية الراجحة التي تتفق مع المعنى القرآني هي أن يتم لكل ذي عهد عهده ، لا أن يكون أربعة أشهر لا يزيد عليها ، كما ستبين ذلك الآية الآتية .
ويوم الحج الأكبر قيل هو يوم عرفة ، ورجح الأكثرون أنه يوم النحر ( 2 ){[1199]} ؛ لأنه وإن كان الحج عرفة لا يتم به الحج ، وإنما يتم الحج بالطواف الركن ، وهو طواف الإفاضة ، ويوم النحر يتوسط بين عرفة وهذا الطواف ، ولأن الروايات تضافرت على أن عليا آذن يوم النحر ، وقال ذلك عند العقبة .
وسمي الحج الكبر في مقام العمرة ؛ لأنهم يسمونها الحج الأصغر ، ولأنه في يوم النحر تكون أكثر أعمال الحج قد أديت ، وقال الحسنى البصري:إنه اجتمع في الحج في السنة التاسعة المشركون والمؤمنون ، وقال:وافق عباده أهل الكتاب ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده .
ونسبة هذا القول إلى التابعي المؤمن الحسن البصري وجدته في الكشاف للزمخشري وأنا أشك في نسبته إليه أو نسبة ما قاله عن اتفاق الحج مع عبادة أهل الكتاب ، وتسميته بالحج الأكبر لذلك ؛ لأن عبادة أهل الكتاب لا عبرة بها عند أهل الإيمان ، ولا عند الله ، فإنه بع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجب عليهم إتباعه فيما أتى به من عبادة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا إتباعي ) ( 3 ){[1200]} .
وبراءة الله ورسوله من المشركين تتناول عهودهم التي نكثوا فيها ، وتتناول شركهم ، وتتناول طريقة حجهم وفيها إيماء بمنعهم ، ولقد صرحت به الآية الكريمة من بعد ، إذ قال تعالى:{. . . . . . . . . . . إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا . . . . . . . ( 28 )} وقد فتح الله تعالى باب التوبة والرجوع إلى الله تعالى .
ولذا قال تعالى:{ فإن تبتم فهو خير لكم} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وكان الالتفات لأنه فيه انتقل من البراءة منهم إلى تقربهم إليه فتح باب التوبة لهم بخطاب الله تعالى لهم مبشرا إن تابوا منذرا إن استمروا في غيهم ، فإن تبتم عن الشرك وعن الطواف عرايا وعن عداوة الرسول فهو خير لكم ، أي فالرجوع إلى الله تعالى هو خير لكم إذ تطهرون عقولكم ونفوسكم ، ومجتمعكم ، وما ورثتم عن جدكم إبراهيم .
{ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ} ، أي إن أعرضتم عن سماع الحق والاستجابة له ، و الإذعان ، وإسلام الوجه فيجب أن تضعوا في علمكم أنكم تحادون الله تعالى ، وأن الله تعالى غالب ولا يمكن أن تعجزوه فهو مالك السماوات والأرض ، وهو القاهر فوق عباده ، فلن تعجزوه في الدنيا والآخرة ، وقد كان الالتفات بالخطاب فيه تربية المهابة ، وهي تزيد الإنذار قوة .
ثم قال في بيان عذابهم في الدنيا والآخرة:{. . . . . . وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 3 )} ، أي مؤلم في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا بالهزائم المتوالية وفي الآخرة بالجحيم .
وفي الكلام إشارتان بيانيتان:
أولاهما:أن التبشير يكون بالخبر السار ، فإذا ذكرت في الأخبار المفرغة المؤسفة ، فذلك لا يخلوا من تهكم واستهزاء ، ومن هذا قوله تعالى:{ وَبَشِّرِ . . . بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
الثانية:في التعبير بالموصول في قوله تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فإنه يشير إلى أن العلة في عذابهم الأليم هي كفرهم ، فإن تابوا فنعيم مقيم .