وقوله تعالى:{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . . . . . . . . . . ( 2 )} والفاء هنا لتفصيل ما يكون بعد البراءة من العهد ، فذكر سبحانه أنهم في أمان من القتال لمدة أربعة أشهر هي الأشهر الحرم ، وكلمة{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} أي سيروا فيها آمنين من القتل والقتال ، ولمدة أربعة أشهر ، ولكن اعلموا أنكم لا تعجزون الله تعالى ، فلا تحسبوا أنكم أمنتم إلى النهاية ولذا قال تعالى:{. . . . . . . . . . . وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ} عن أن ينالكم عذابه في الدنيا والآخرة ، فاطمئنوا فقط في أربعة الأشهر الحرم ، وقد بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر أنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، وتلك الثلاثة الأولى أشهر الحج والذهاب إليه والأوبة منه ورجب الذي بين جمادى الآخر وشعبان ( 1 ){[1196]} شهر عمرة فإذا كان الله ترككم تسيحون في الأرض فلستم بمعجزي الله{. . . . وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( 2 )} أي منزل بهم الخزي بإنزال الهزيمة بهم ، وإضعاف شوكتهم ، وذهاب تطاولهم ، وسيطرتهم على البلاد العربية .
وإنه لكي تجلى هذه الآيات نقتبس كلمة من الصحاح ، والسورة تبين نزول هذه الآيات ومواقيت نزولها – فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة سنة ثمان ، وأناب عنه في الحج هذا العام عتاب بن أسيد ، وفي سنة تسع امتنع عن أن يحج بنفسه ؛ لأنت المشركين كانوا يحجون ، وكانت قريش يحجون عريا ، فلم يرد أن يراهم كذلك في الحج ، وأناب أبا بكر عنه في الحج هذا العام ، وقد نزلت سورة براءة في شهر شوال من هذه السنة ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا أن يبلغهم أربعين آية من أولها ، وقيل أقل من ذلك ، فأتبع أبا بكر عليها بها فلما دنا علي من أبي بكر وهو راكب العضباء ناقة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع رغاءها فوقف وقال:هذه ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما لحق به علي قال أبو بكر:أمير أم مأمور ، قال علي:مأمور ، فلما كان يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة خطب أبو بكر ، وحدثهم عن مناسكهم ، وقام علي رضي الله عنه وقال:إني رسول رسول الله إليكم ، فقالوا:بماذا ، فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية . وعن مجاهد ثلاث عشرة آية ، ثم قال أمرت بأربع:ألا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وان يتمم إلى كل ذي عهد عهده .
عندئذ قال من حضر من المشركين:يا علي ، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف .
وإن هذا يدل على أنهم ابتدأوا بنبذ العهد ، وأن الله ورسوله عندما برأنا من العهد كانوا هم المبتدئين بالنبذ ، فكانت البراءة من عهودهم مجاوبة لهم في نبذها ، وأباح الله تعالى أن سيحوا في الأرض أربعة أشهر{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 3 )} .