{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}
الفاء للتفريع على معنى البراءة ،لأنّها لمّا أمر الله بالإذان بها كانت إعلاماً للمشركين ،الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ،فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنّهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات .فالتقدير: فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة .
ويجوز تقدير قول محذوف مفرّع على البراءة من عهودهم ،أي فقل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر .
والسياحة حقيقتها السير في الأرض .ولمّا كان الأمر بهذا السير مفرّعاً على البراءة من العهد ،ومقرّراً لحرمة الأشهر الحرام ،علم أنّ المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض ،وليس هو سيرهم في أرض قومهم ،دلّ على ذلك إطلاق السياحة وإطلاق الأرض ،فكان المعنى: فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض .
وهذا تأجيل خاصّ بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة ،ونهايته نهاية محرّم في آخر الأشهر الحرم المتوالية ،وهي: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم .وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق: وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم: هي أربعة أشهر تبتدىء من عاشر ذي الحجّة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر ،فيكون قوله:{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم}[ التوبة: 5] ( أي من ذلك العام ) تنهيةً لذلك الأجل روعي فيها المدّة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم ،وذلك نهاية المحرّم .
وقيل: الأشهر الأربعةُ هي المعروفة عندهم في جميع قبائِل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورَجب ،أي فلم يبق للمشركين أمْنٌ إلاّ في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاصّ لتأمينهم ،ولكنّه التأمين المقرّر للأشهر الحرم فيكون المعنى: البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرّر للأشهر الحرم .وحكى السهيلي في « الروض الأنف » أنّه قيل إنّه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجّة والمحرم من ذلك العام ،وأنّه جعل ذلك أجلاً لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام .
وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم ،وبأنّ ما دون تلك الأشهر حَرب بين المسلمين والمشركين ،وسيقع التصريح بذلك .
{ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين} .
عطف على{ فسيحوا} داخل في حكم التفريع ،لأنّه لمّا أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احْتراساً من تطرّق الغرور ،وتهديداً بأنّ لا يطمئنوا من أنْ يسلّط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم ،وإن قبعوا في ديارهم .
وافتتاح الكلام ب{ واعلموا} للتنبيه على أنّه ممّا يحقّ وعيه ،والتدبر فيه ،كقوله:{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} في سورة الأنفال ( 24 ) ،وقد تقدّم التنبيه عليه .
والمُعجز اسم فاعل ،من أعجز فلاناً إذا جعَله عاجزاً عن عمل مَّا ،فلذلك كان بمعنى الغالب والفائِت ،الخارج عن قدرة أحد ،فالمعنى: أنّكم غير خارجين عن قدرة الله ،ولكنّه أمّنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس .
وعُطف قوله:{ وأن الله مخزي الكافرين} على قوله:{ أنكم غير معجزي الله} فهو داخل في عمل{ واعلموا} فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفاً .
وكان ذكر{ الكافرين} إخراجاً على خلاف مقتضى الظاهر: لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول: وإنّ الله مخزيكم ،ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سبيبة الكفر في الخزي .
والإخزاء: الإذلال .والخزي بكسر الخاء الذلّ والهوان ،أي مقدّر للكافرين الإذلال: بالقتل ،والأسر ،وعذاب الآخرة ،ما داموا متلبّسين بوصف الكفر .