استثناء من المشركين في قوله:{ أن الله بريء من المشركين}[ التوبة: 3] ،ومن{ الذين كفروا} في قوله:{ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}[ التوبة: 3] لأنّ شأن الاستثناء إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعُها ممّا يصلح لِذلك الاستثناء ،فهو استثناء لهؤلاء: من حكم نقض العهد ،ومن حُكم الإنذار بالقتال ،المترتّببِ على النقض ،فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم .
والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة ،وقد بين مدلول الاستثناء قوله:{ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} .
وحرف ( ثم ) في قوله:{ ثم لم ينقصوكم شيئاً} للتراخي الرتبي ،لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه ،لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول .
والنقصُ لِشيء إزالة بعضه ،والمراد: أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه .وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ ( ثُمَّ ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة ،أي بُعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه ،بُعد كمال وارتفاع شأن .فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به .
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين ،ووفّوا به على أتمّ وجه ،فلم يكيدوا المسلمين بكيد ،ولا ظاهروا عليهم عدّواً سِرًّا ،فهؤلاء أمِر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها .ومن هؤلاء: بنو ضَمره ،وحَيَّان من بني كنانة: هم بنو جذيمة ،وبنو الدِّيل .ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية .
وقد علم من هذا: أنّ الذين أمَر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك ،وهم قوم نقصُوا ممّا عاهدوا عليه ،أي كَادوا ،وغدروا سرّاً ،أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة .
ومن هؤلاء: قريظة أمَدُّوا المشركين غير مرّة ،وبنو بَكر ،عَدَوْا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعُبِّر عن فعلهم ذلك بالنقصصِ لأنّهم لم ينقضوا العهد علناً ،ولاَ أبطلوه ،ولكنهم أخلُّوا به ،ممّا استطاعوا أن يَكيدوا ويمكروا ،ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه .
وذكر كلمة{ شيئاً} للمبالغة في نفي الانتقاص ،لأنّ كلمة « شيء » نكرة عامّة ،فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود ،كما تقدّم في قوله تعالى:{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} في سورة البقرة ( 113 ) .
والمظاهرة: المعاونة ،يجوز أن يكون فعلها مشتقّاً من الاسم الجامد وهو الظهر ،أي صُلب الإنسان أو البعيرِ ،لأنّ الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلّب ،وبه قوة البعير في الرحلة والحمل ،يقال: بعير ظهير ،أي قوي على الرحلة ،مُثِّلَ المُعِين لأحدٍ على عمل بحال من يُعطيه ظهره يحمل عليه ،فكأنّه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره ،فمن ثَمّ جاءت صيغة المفاعلة ،ومثله المعاضدة مشتقّة من العَضد ،والمساعدة من الساعد ،والتأييد من اليد ،والمكاتفة مشتقّة من الكتف ،وكلّها أعضاء العمل .
ويجوز أن يكون فعله مشتقّاً من الظهور ،وهو مصدر ضدّ الخفاء ،لأنّ المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس ،فمُثِّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء ،ولذلك يعدى بحرف ( على ) للاستعلاء المجازي ،قال تعالى:{ وإن تظاهرا عليه}[ التحريم: 4] وقال{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة}[ التوبة: 8] وقال{ ليظهره على الدين كله}[ الفتح: 28] وقال{ والملائكة بعد ذلك ظهير}[ التحريم: 4] أي معين .
والفاء في قوله:{ فأتموا} تفريع على ما أفاده استثناء قوله:{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} إلخ ،وهو أنّهم لا تشملهم البراءة من العهد .
والمدّة: الأجل ،مشتقّة من المَدّ لأنّ الأجل مَدّ في زمن العمل ،أي تطويل ،ولذلك يقولون: مَاد القُوم غيرَهم ،إذا أجَّلوا الحربَ إلى أمد ،وإضافة المدّة إلى ضمير المعاهَدين لأنّها منعقدة معهم ،فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ،ولكن رجّح هنا جانبهم ،لأنّ انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به ،إذ صار المسلمون أقوى منهم ،وأقدر على حربهم .
وجملة:{ إن الله يحب المتقين} تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأنّ ذلك من التقوَى ،أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به ،لأنّ الإخبار بمحبة الله المتّقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى .
ثم إنّ قبائل العرب كلّها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدّة فانتهت حُرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام .