واقتنع العزيز بهذه الملاحظة لأنها قريبة لمنطق الأشياء ،{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} صدّق يوسف بأنها راودته عن نفسه ،والتفت إليها في موقف استنكار وتأنيب ،{قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} لما كان يحمله في نفسه من انطباع عن كيد النساء اللواتي يُقمن ضعفهن الأنثوي في مخاطبة شهوة الرجل وغريزته ،واستعمال ذلك الضعف كسلاحٍ ضدّه ،في ما تذرفه من دموع في حالة الشكوى ،وفي ما تقدّمه من أساليب أخرى في محاولة لإقناع الآخرين بظلامتها .وفي هذا الاتجاه سارت زوجة العزيز في موقفها من يوسف ،مستغلة وجوده عندها في البيت ،وحاجته إليها في ظروف العبودية التي فُرضت عليه ،ويقظة غرائز المراهقة في دمه وأعصابه ،وعندما امتنع عليها لاحقته في محاولة منها للضغط عليه ،ولما فاجأها زوجها بالموقف الشائن بادرت إلى اتهام يوسف بالاعتداء عليها ،اعتقاداً منها بأن طبيعة الأمور في مثل هذه الحالات تفرض على زوجها تصديقها وتكذيب يوسف ،{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} لأنّ المرأة تملك من الوسائل الخفيّة ،ما تستطيع به السيطرة على الموقف من أوسع السبل .
الكيد وضعف المرأة
وقد ذهب البعض ،إلى أن التاريخ البشري الذي عزل المرأة عن النشاط الفكري والعمل الجدّي الواسع في حركة الحياة ،وحبسها في دائرة البيت وأضاء الأجواء الخاصة المحيطة بموقعها من الرجل جعلها تتجه إلى تفجير طاقاتها في التخطيط للدفاع عن نفسها ،بالتآمر والكيد والحيل المتحركة في أجواء الخفاء ،في مجتمع النساء والرجال معاً ،ولهذا كانت هذه الوسائل نتيجة طبيعيةً لانطلاقة عبقريتها الذهنية بكل طاقاتها في هذا الاتجاه فأبدعت فيه ،ككل إنسان يكرس لشيء ما كل طاقاته الفكرية والعملية .وبهذا فإن الحيل والمكيدة لا تمثل حالةً طبيعيةً في المرأة ،بل تمثل لوناً من ألوان النشاط الذهني والعملي الذي تحركه أجواء معينة يمكن للرجل أن يقوم به أيضاً في أجواء مماثلة ،إلا أن ما يميز المرأة في هذا الشأن أن موقعها الضعيف أمام الرجل والحواجز التي تحول دون حصولها على ما ترغب تجعل الكيد أسلوباً تحتاجه للوصول إلى ما تريد ،خلافاً للرجل الذي يتمتع بفضل سلطته وقوّته وموقعه المميّز ،بحرّية الحركة ،وإمكانات الوصول إلى ما يريد من أقرب طريق بشكل مباشر ،دون حاجة للحيلة الكبيرة ،والفكر الدقيق .