{الَّذِينَ صَبَرُواْ} وعاشوا آلام الصبر ،في العمق من مشاعرهم ،في مواجهة فراق ما كانوا قد اعتادوا عليه من نمط عيش في أوطانهم التي فارقوها ،حيث ذكريات الصبا ،ومراتع الطفولة ،والأجواء الاجتماعية الحميمة في وسط الأقرباء والأصدقاء الذين كانوا يحيطونهم بكل حبٍّ وحنانٍ ورعاية ..وقد فقدوا ذلك كله ،وانتقلوا إلى أرض جديدة ،لا تربطهم بها أية مشاعر خاصة ،بل كل ما هناك ،أنها أرض الرسالة ،وساحة الجهاد ،ومجتمع الإسلام ،ما يفرض عليهم الضغط على مشاعرهم الخاصة ،واستبدالها بمشاعر عامة ،تحوّل الجانب الشعوري فيهم إلى جانب حيٍّ ،يتغذى بالعلاقات الإيمانية الإنسانية ،بدلاً من العلاقات الذاتية ..من أجل صنع الإنسان الجديد الذي لا يمثل الحرمان من أجل الدعوة إلى الله عنده حالةً سلبيةً في ذاته ،بل يمثل لوناً من ألوان الفرح الروحي الذي يعيش اللذّة في رضا الله ،أكثر مما يعيشها في إرضاء نوازعه الذاتية .من هنا ،فإن قيمة الصبر ،تكمن في ما يحققه للمؤمن من أجواء روحية تعطيه إمكانية التماسك ،وامتداد التحرك ،ومواجهة الصعوبات بقوّة ،وتحدي التهاويل باطمئنان ،وانتظار المستقبل بثقة ،بالرغم من كل ما يثيره الآخرون أمامه من تهاويل الخطر ،حتى إذا وقف أمام الأشباح المخيفة التي تحملها تهاويل المستقبل الغامض ،كان التوكل على الله هو السبيل للحصول على حالة الهدوء النفسي ،والثقة بالنصر ،من خلال الثقة بالله .وهذا ما وصف به الله المهاجرين الصابرين{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بما يعنيه مضمون التوكل ،من إرجاع الأمور كلها إلى الله ،في ما لا يملك الإنسان الوسيلة العملية للتخلص منه ،أو لمواجهته بالإمكانات العاديّة ،لأن الله هو الذي يملك الأمر كله وهو المستعان في كل شيء .وبذلك فلن تتوقف المسيرة بالتوكل ،بل تبقى مستمرة في خط الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ،مهما أثير أمام الدعاة من عقبات وتحديات وتهاويل ،غير أنها تحاول التقاط أنفاسها لتعيد النظر في خططها ،وفي ما قطعته من مراحل على الطريق ،وفي ما بقي لها منه ..وفي ما تواجهه من حواجز وموانع ،لتفكر في ذلك كله ،ولتدبر منه ما تستطيع تدبيره ،وتحلّ منه ما يمكن أن تجد له حلاً ،ثم تتوكل على الله في ما لا تستطيع السيطرة عليه ،وتترك الأمر فيه إليه ،وهذا ما يجعل من التوكل مصدر حركةٍ واعيةٍ في الواقع ،لا مصدر هروب من مواجهته .