/م41
ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين ،فيقول: ( الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون ) .
بحوث
1كما هو معروف فإِنّ للمسلمين هجرتين ،الأُولى: كانت محدودة نسبياً ( هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة ) ،والثّانية: الهجرة العامة للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين من مكّة إلى المدينة .
وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثّانية ،كما يؤيد ذلك شأن النّزول .
وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية ( 100 ) من سورة النساء ،والآية ( 75 ) من سورة الأنفال .
وعلى أية حال ،فللمهاجرين مقام سام في الإسلام ،وقد اهتم النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهم كثيراً وكذا المسلمون من بعد ،وذلك لأنّهم جعلوا حياتهم المادية وما يملكون في خدمة الدعوة الإِسلامية المباركة ،ممّا حدا بالبعض أن يعرض حياته للمخاطر ،والبعض الآخر ترك كل أمواله ( كصهيب ) معتبراً نفسه رابحاً في هذه الصفقة المباركة .
ولو لم تكن تلك التضحيات لأُولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في مكّة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإِسلام ليعم أسماع الجميع ،وَلَكُتِمَ الصوت وقبر في صدور المؤمنين إلى الأبد ،ولكنّ المهاجرين بتحولهم المدروس الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكّة فحسب ،وإِنّما أوصلوا صوت الإسلام إلى أسماع العالم ،فأصبحت الهجرة سنّة إِسلامية تجري على مرّ التأريخ إِذا ما واجهت ما يشبه ظروف مكّة قبل الهجرة .
2التعبير ب ( هاجروا في اللّه ) من دون ذكر كلمة «سبيل » إِشارة إلى ذروة الإِخلاص الذي كان يحملونه أُولئك المهاجرون الأُول ،فهم هاجروا لله وفي سبيله وطلباً لرضاه وحماية لدينه ودفاعاً عنه ،وليس لنجاتهم من القتل أو طلباً لمكاسب مادية أُخرى .
3وتظهر لنا جملة ( من بعدما ظلموا ) عدم ترك الميدان فوراً ،بل لابدّ من الصبر والتحمل قدر الإِمكان .
أمّا عندما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته ،وإضعاف المؤمنين ..فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة ،ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل ،حتى تنتهي الحال إلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية ...
4أمّا قوله تعالى: ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) «نبوئنهم » من ( بوأت له مكاناً ) أي هيأته له ووضعته فيهفيشير إلى أن المهاجرين في اللّه وإِنْ كانوا ابتداءً يفتقدون إلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة ،إِلاّ أنّهم في النهايةحتى في الجانب الدنيويمنتصرون{[2079]} .
فلماذا بعد ذلك يتحمل الإِنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها ذليلا ؟!لماذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوّه من موضع جديد فيأخذ منه حقّه ؟!
وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية ( 100 ) من سورة النساء ،حيث تقول: ( ومَنْ يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ) .
5إِن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين «الصبر » و «التوكل » واضح ،لما يواجه من ظروف صعبة ومتعبة ،تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف في الدرجة الأُولى ،ثمّ الاعتماد الكامل على اللّه سبحانه وتعالى .وأساساً فإنّ الإِنسان لو افتقد في الحوادث العصيبة والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند المعنوي المحكم ،فإنّ الصبر والاستقامة والثبات تكون مستحيلة .
وقال البعض: إِنّ انتخاب «الصبر » هنا ،لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إلى اللّه يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس ،أما انتخاب «التوكل » فلأجل أنّ نهاية السير هي الانقطاع عن كل شيء غير اللّه عزَّ وجلّ والارتباط به .
وعلى هذا ،تكون الصفة الأُولى لأوّل الطريق والثانية لآخره{[2080]} .
وعلى أية حال ..فلا سبيل إلى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية ،فعلى الإِنسان أنْ يقطع علائقة المادية الباطنية أوّلاً بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية ،ليستطيع أنْ يهاجر ويترك دار الكفرمع كل ما له فيهامنتقلا إلى دار الإِيمان .