{صِدِّيقاً}: الصدّيق: صيغة مبالغة من الصدق ،أي: كثير التصديق بالحق .
إننا أمام حوار مثير يديره إبراهيم مع أبيه ،أو عمه الذي تبنّاه ،وقد كان كافراً ،كقومه ،فقد رأى أن من أولى مهماته في الدعوة إلى الله ،أن يبدأ بدعوة أبيه ،لأن بقاءه على الكفر يترك نقطة ضعف في موقفه ،وقد يخلق له مصاعب داخلية تعطل بعض خطواته ،أو تجلب له مشاكل غير منتظرة .
وقد واجه الحوار صعوبة في البداية ،لأنه حوار الابن مع أبيه ،في مجتمع يعطي للأبّوة قيمةً كبيرةً ترقى إلى درجة التقديس الذي يلزم الأبناء الخضوع المطلق لآبائهم ،ولهذا استخدم إبراهيم أسلوباً حذراً ،فلم يلجأ إلى أي عنصر من عناصر الإثارة التي تتناول الذات بالتجريح والتبكيت ،بل حاول ،على العكس من ذلك ،أن يشحن أسلوبه في الحوار ،بالعاطفة إلى درجة تجعل من يقرأه يتصور أنه في حالةٍ من حالات التوسُّل إلى أبيه تماماً كما هي حالة من يخاطب إنساناً عزيزاً معَّرضاً للسقوط أو للهلاك ،ففيها يتحدث الإنسان عادة بكل هلع ومحبة ،لإنقاذ من يوده بأي طريق .وبذلك نجد في الحوار الذي تمثله الآيات المتقدمة ،بساطة الفكرة ووضوحها ،في إطار الجو الحميم الذي يسود الموقف .
فنحن نلاحظ ،في أسلوب إبراهيم ،أنه حاول تبرير دعوته لأبيه بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ،ولذا ،فلا مانع هناك من وجهةٍ اجتماعيةٍ أن يدعو الابن أباه ،مع حفظ مقام الأبّوة ،كما عبّر عن شعوره العاطفي تجاه ضلال أبيه ،وخوفه من أن يمسَّه عذاب الله .
وقد جاء ردّ أبيه ،من موقع من يشعر بسلطة الأبوة التي تضغط على الابن ليسير على خطى أبيه ،وتهدده بالقوة والطرد والهجران ،إن خالف ذلك ،فلا حوار ولا كلام بين الابن وأبيه ،إنما هو الأمر والطاعة ،فللأب أن يعلن رغبته قبل أمره ،وللابن أن ينفذ دون تردد أو تفكير .
إنها شريعة المجتمع ،آنذاك ،التي تجعل من علاقة الأبناء بآبائهم علاقة تشبه علاقة العبودية التي يعيشها العبيد أمام المالكين .
ولم يتراجع إبراهيم عن إثارة الجو العاطفي في إعلان موقفه الرسالي من أبيه بعد أن رفض دعوته ،وقد استطاع فيه أن يوفق بين الرسالة والعاطفة ،فجعل العاطفة طريقاً إلى رسالته ،وشعوراً بالمسؤولية تجاه أبيه ،محولاً الموقف إلى موقف إنقاذ ،فكان رد فعله أن توجه إلى أبيه بالسلام ،ووعد أن يدعو له بالمغفرة ،وبأن يوفقه الله تعالى لأسبابها من الهداية إلى الإيمان ؛وأعلن له ولقومه ،باعتبار أن أباه يمثل فريق الكفر ،بأنه سيعتزلهم وما يعبدون من دون الله ،بعد أن قام بواجبه تجاههم .
وقد كان هذا الوعد من إبراهيم لأبيه بالاستغفار ناشئاً عن أمله في أن يتراجع أبوه عن موقفه ويعود إلى الله ،وليس ناشئاً على الإطلاق من إحساسه بأن القرابة تمثل امتيازاً يميِّز أباه عن غيره ،ولذا أعلن البراءة منه بعد أن يئس من إيمانه ،وظهرت عداوته له .
وإننا في هذا المجال ،نستطيع الاستفادة من هذا الأسلوب في المواقف التي نحتاج فيها إلى دعوة الأشخاص الذين تربطنا فيهم بعض الروابط العاطفية من نسب أو غيره ،لنتعلم من إبراهيم( ع ) ،كيف نشحن الحوار بالمشاعر التي تسهل المهمة ،بما تثيره لديهم من مشاعر تسهل انسجامهم مع الأجواء الحميمة للحوار دون أن يخلق ذلك انجرافاً مع العاطفة لمصلحة الكفر والضلال ،لأن الأسلوب العاطفي في هذه الحال لا ينبع من حالة نفسية عفوية ،بل يرتكز على تخطيط يعتبر العاطفة جزءاً من الخطة العامة تخضع لما تخضع له تلك الخطة من مرونة ووعي وثبات .
وعلى ضوء هذا ،نجد أن من واجبنا إعطاء الأسلوب بعض القوة في حالات أخرى ،إذا ما عمل من ندعوهم على استغلال أسلوبنا العاطفي لأغراض في غير صالح الدعوة إلى الله ،تماماً كما كان عليه الأسلوب الآخر لإبراهيم ،في ما أشرنا إليه ،ليظل الأسلوب ،في كلتا الحالتين ،منسجماً مع خط الحكمة الذي يريد الله للدعوة في سبيله أن تسير عليه .
وقد نشعر ،في نهاية هذا العرض ،بالحاجة إلى الاستفادة من الأجواء الروحية في بعض حالات الحوار ،بين أسلوبٍ يربط المتحاورين بفضل الله ونعمه ،وبين أسلوب ينقل الموقف إلى ابتهال خاشعٍ يمارسه الداعية للتأثير النفسي على الآخرين عندما يشغلهم عمّا هم عليه ،بروعة المناجاة ،وخشوع الابتهال .
هذه بعض الأفكار العامة حول هذه الآيات ،ولا بد لنا من الدخول في التفاصيل التفسيرية لمفرداتها .
إبراهيم( ع ) يباشر الدعوة إلى الله
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراَهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} قد يكون من الضروري للنبي ،أو للداعية بشكل عام ،أن يستحضر في وعيه ملامح الشخصيات الرسالية التي تمثل النموذج الأكمل لحركة الإنسان الرسالي في الدعوة ،ليدرس أساليبها ،ويستلهم روحيتها ،وينتفع بتجربتها ..ومن أبرز هؤلاء إبراهيمالنبيوهو النبي الصديق الذي كانت حياته صدقاً كلها ،مع نفسه ومع ربه ومع الناس من حوله ،فلم يجامل أحداً في الحق ،ولم يهادن قريباً أو بعيداً في مستلزمات الرسالة ،ولم يترك في حياته فراغاً لغيرها ،بل كانت الرسالة كل فكره وهمه ،وكل حياته ..فقد كانت تجربته غنيةً بالتنوع الذي يحكم جوانبها ،كما كانت روحيته ،في علاقته بالله وفي إخلاصه للرسالة ،في المستوى الأعلى من روحية الأنبياء والصديقين ،وقد يكون من بين تجاربه الرائعة التي تعكس عمقه الروحي تجربته مع أبيه .