{نَدِيّاً}: النديّ والنادي: المجلس .
وهذا منطقٌ جديدٌ للكافرين في مواجهة المؤمنين ،للإيحاء لهم بأن الإيمان لا يحقق للمؤمنين أية إيجابيات على مستوى السعادة في الحياة الدنيا ،بينما يعيش الكافرون الحياة الرغيدة الحلوة التي تجعل لهم المواقع المتقدمة في حركة الحياة وقيادتها ،ما يعني أن المسألة لا تحتمل الجدل ما دامت التجربة الحية هي المقياس الصحيح لسلامة أيّ خط فكريّ وعمليّ في الحياة ،وذلك من خلال الفكرة التي تؤكد على أن الهدف الأساس من الاتجاهات التي يتبناها الإنسان هو تحقيق السعادة في الحياة ،والوصول إلى الدرجات العليا في تأكيد ذاته ووجوده المتحرك في الكون .وقد ينفعل الكثيرون بهذا المنطق ،فيسقطون أمامه ،ويتحركون في تحديد هوية الانتماء الفكري والعملي ،ولكن للقرآن منطقاً آخر يهزم هذا المنطق بطريقة أخرى ،فلنتابع المسألة مع هذه الآيات .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّناتٍ} لتدفعهم إلى التفكير والتأمل والحوار ،ولتفتح قلوبهم على آيات الله في الكون ،لتقودهم إلى الإيمان بالله من موقع اليقين .ولكنهم لا يريدون أن يفتحوا عيونهم على عجائب خلق الله ،أو يحركوا عقولهم في أسرار قدرته ،أو يصغوا بأسماعهم إلى آياته المنزلة ،أو ينطلقوا مع المؤمنين في الحوار الجاد ..،بل يريدون أن يعيشوا اللهو والعبث واللامبالاة ،ويستريحوا إلى رخاء الحياة من حولهم ،ويدفعوا المؤمنين إلى الاستغراق في مباهجها ولذاتها ...،فإذا جاءتهم آيات الله{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً} بما يمثله ذلك من سعة ،وراحة ،ورخاء ،وجاه ،ومال ،وبنين ،وصحة ،وعافية ،{وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} بما يمثله ذلك من سكن ،وموقع ،ومجتمع يتميز بدرجاته العليا ،وامتيازاته الرفيعة .
إنهم يتساءلون بهذه الطريقة ليتطلع المؤمنون إلى ما حولهم ،ليقارنوا بين مجتمع المؤمنين في بؤسه ،وضعفه ،وجهده ،ومشاكله ،وضيقه ،وبين مجتمع الكافرين في سعادته الفائضة بالسرور ،وفي قوته ،وراحته ،وسعته ،ورخاء العيش فيه ،فيتبدى لهم أن الإيمان لا يطعم أصحابه خبزاً ،ولا يحقق لهم سعادة في الحياة الدنيا ،ليعرفوا أن الحق في جانب الكافرين لا في جانبهم .ولكن الله يريد للإنسان أن ينفذ إلى عمق الأمور بعيداً عن سطحها ،وإلى نهاياتها من دون الاقتصار على بداياتها .وهكذا أراد له أن يلتفت إلى أن الدنيا ليست نهاية المطاف في وجوده ،فهناك آخرة تحمل في ساحاتها النتائج الحاسمة لعمله في الدنيا في ما يلتزمه من خطوط الخير والشر ،والحق والباطل ...فهناك عالم السعادة الذي يمثل العمق في حركة السعادة في وجوده ،وهناك عالم الشقاء الحقيقي الذي لا سعادة معه .وبذلك لا تكون القيمة هي في ما يحصل عليه الإنسان في الدنيا لأنها ستزول عنه ،وتزول معها كل مظاهر السعادة فيها .