قوله تعالى{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً 73} .
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{خَيْرٌ مَّقَاماً} قرأه ابن كثير بضم الميم .والباقون بفتحها .وقوله:{ورئْياً} قرأه قالون وابن ذكوان «ورياً » بتشديد الياء من غير همز .وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة .
ومعنى الآية الكريمة: أن كفار قريش كانوا إذا يتلوا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن ،في حال كونها بينات أي مرتلات الألفاظ ،واضحات المعاني ،بينات المقاصد ،إما محكمات جاءت واضحة ،أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ،أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً ،أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتهاأو حججا وبراهين .
والظاهر أن قوله:{بَيّنَاتٍ} حال مؤكدة .لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك .ونظير ذلك قوله تعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} أي إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها ،وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له .ومضمون شبهتهم المذكورة: أنهم يقولون لهم: نحن أوفر منكم حظاً في الدنيا ،فنحن أحسن منكم منازل ،وأحسن منكم متاعاً ،وأحسن منكم منظراً ،فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا ،وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم .
فقوله:{أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً} أي نحن وأنتم أينا خير مقاماً .والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة ،وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها .وعلى قراءة الجمهور فالمقام بفتح الميم مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم .وقيل: وهو موضع القيام بالأمور الجليلة ،والأول هو الصواب .
وقوله:{وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أي مجلساً ومجتمعاً .والاستفهام في قوله:{أي الْفَرِيقَيْنِ} الظاهر أنه استفهام تقرير .ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاماً وأحسن ندياً منا .وعلى كل حال فلا خلاف أن مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهمأي كفار قريشخير مقاماً وأحسن ندياً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم ،وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق ،وأنهم أكرم على الله من المسلمين .وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال ب«أي » في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمُّهما كالعادة في أي غلط منهم .لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح .والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى .واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة ،وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده ،واستحقاقهم لذلك القيامة ،وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده ،واستحقاقهم لذلك لسخافة عقولهمذكره الله تعالى في مواضع من كتابه .كقوله تعالى عنهم:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ 11} ،وقوله تعالى:{وَكَذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ 53} ،وقوله تعالى:{وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35} ،وقوله تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين 55 َنُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ 56} ،وقوله{أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً 77} ،وقوله{قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً 35 وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً 36} ،وقوله:{وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} ،إلى غير ذلك من الآيات .فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيباً من الدنيا إلا لرضاه عنهم ،ومكانتهم عنده ،وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك .