وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً 74} والمعنى: أهلكنا قرونا كثيرة ،أي أمماً كانت قبلهم وهم أكثر نصيباً في الدنيا منهم ،فما معهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله ،فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم ،الذين هم أحسن أثاثاً ورئياً منكم .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{وَكَمْ} هي الخبرية ،ومعناها الإخبار بعدد كثير ،وهي في حمل نصب على المفعول به لأهلكنا ،أي أهلكنا كثيراً .{وَمِنْ} مبينة ل{كَمْ} وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم .قيل: سموا قرناً لاقترانهم في الوجود .والأثاث: متاع البيت .وقيل هو الجديد من الفرش .وغير الجديد منها يسمى «الخرثي » بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة .وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطُّوسي قول الشاعر:
تقادم العهد من أم الوليد بنا *** دهراً وصار أثاث البيت خرثيا
والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقاً .قال الفراء: لا واحد له .ويطلق الأثاث على المال أجمع: الإبل ،والغنم ،والعبيد ،والمتاع .والواحد أثاثة .وتأثث فلان: إذا أصاب رياشاً ،قاله الجوهري عن أبي زيد .وقوله{ورئْياً} على قراءة الجمهور مهموزاً ،أي أحسن منظراً وهيئة ،وهو فعل بمعنى مفعول من رأى البصرية .والمراد به الذي تراه العين من هيأتهم الحسنة ومتاعهم الحسن .وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله:
أشافتك الظغائن يوم بانوا *** بذي الرئي الجميل من الأثاث
وعلى قراءة قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همز .فقال بعض العلماء: معناه معنى القراءة الأولى ،إلا أن الهمزة أبدلت ياءً فأدغمت في الياء .وقال بعضهم: لا همز على قراءتهما أصلاً بل عليها فهو من الري الذي هو النعمة والترفه ،من قولهم: هو ريان من النعيم ،وهي رياً منه .وعلى هذا فالمعنى أحسن نعمة وترفها .والأول أظهر عندي .والله تعالى أعلم .
والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة .كقوله تعالى:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ 178} ،وقوله:{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جزاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ في الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ 37} .وقوله:{فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ 44 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 45} ،وقوله تعالى:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ 44} .والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً ،وقد قدمنا شيئاً من ذلك .
وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة{أي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً 73} الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي: أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم .والندي محل اجتماع بعضهم ببعض ،فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت .ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
يومان يوم مقاماتٍ وأندية *** ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب
والمقامات: جمع مقامة بمعنى المقام .والأندية: جمع نادٍ بمعنى الندى وهو مجلس القوم ،ومنه قوله تعالى:{وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} فالنادي والندي يطلقان على المجلس ،وعلى القوم الجالسين فيه .وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين ،ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق:
وما قام منا قائم في ندينا *** فينطق إلا بالتي هي أعرفُ
وقوله تعالى هنا:{وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} .ومن إطلاقه على القوم قوله:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ 17 سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ 18} .ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة:
لهم مجلس صهب السبال أذلة *** سواسية أحرارها وعبيدها
والجملة في قوله:{هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً 74}: قال الزمخشري: هي في محل نصب صفة لقوله:{كَمْ} ألا ترى أنك لو تركت لفظة{هُمْ} لم يكن لك بد من نصب{أَحْسَنُ} على الوصفية ا هوتابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك .وتعقبه أبو حيان في البحر بأن بعض علماء النحو نصوا على أن «كم » سواءً كانت استفهامية أو خبرية لا توصف ولا يوصف بها .قال: وعلى هذا يكون{هُمْ أَحْسَنُ} في موضع الصفة ل{قَرْنٍ} وجمع نعت القرن اعتباراً لمعنى القرن ،وهذا هو الصواب عندي لا ما ذكره الزمخشري وأبو البقاء .وصيغة التفضيل في قوله:{هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً 74} تلزمها «من » لتجردها من الإضافة والتعريف ،إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها .والتقدير: هم أحسن أثاثاً ورئِياً منهم ،على حد قوله في الخلاصة:
وأفعل التفضيل صِله أبدا *** تقديراً أو لفظاً بِمن إن جردا
فإن قيل: أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية ؟فالجوابأنه راجع إلى الكفار المذكورين في قوله:{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ} الآية ،وقوله:{وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً 72} قاله القرطبي .والله تعالى أعلم .