توحيد اللّه الرحمن الرحيم:
] وَإِلَهُكُمْ[ الذي خلقكم ورزقكم وأبدع الكون كلّه وأوجده من العدم ،ومنحه نظامه البديع في دقته ،المتنوّع في أشكاله وألوانه وخصائصه وآثاره ،وجعل الفطرة الكامنة في وجودكم العقلي والروحي دليلاً عليه وعلى وحدانيته ،] إِلَهٌ وَحِدٌ[ لا مجال لتعدّده في الاثنينية التي قد يعتقدها البعض ،أو في الآلهة التي قد يتصوّرها بعض آخر بأنها الوحدة التي لا تقبل التجزئة ولا يمكن أن تنفتح على حركة العدد في امتداده ،بل تنفتح على أعمق أعماق معنى الوحدة في العقل والإحساس والوجود .
] لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ[ فهذه هي الحقيقة التفصيلية للتوحيد التي لا بُدَّ لكلّ مؤمن من أن يختزنها في وجدانه الإيماني من أجل نفي الألوهية عن كلّ ما يعتبره النّاس إلهاً ،أو ما يمكن أن يمنحوه هذه الصفة في المستقبل ،كاستغراقهم في خصائص الموجودات الذاتية مما تمثّل فيها من عناصر العظمة التي توحي إليهم بالاعتقاد المنحرف ،والتصوّر المشرك ،وإثبات الألوهية للّه وحده في تعينه في ذاته ،بحيث تنفي وحدتُه غيرَه من دون حاجة إلى نفي الغير بطريقة خارجية .
] الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[ الذي أوجدكم برحمته ،وأنعم عليكم بنعمه ،وهداكم إلى الحقّ بهدايته ،ووعدكم برضوانه وجنّته على امتداد الوجود كلّه .
وهذا هو التصوّر الإنساني للتوحيد في مضمونه الذاتي في معنى اللّه ،وفي حركته العامة في مواجهة الآلهة المدَّعاة معه ،أو من دونه ،للدخول في عملية مقارنة بين اللّه وبين الآخرين للوصول إلى النتيجة الطبيعية في احتقارهم في حجم وجودهم ،وفي قدراتهم الذاتية ،وفي كلّ ما يتمثّل فيهم ،أمام عظمة اللّه المطلقة ،فيتخفف الإنسان من الشعور بأيّة علاقة كبيرة بهم من خلال المعرفة العقلية والشعورية بأنهم مجرّد موجودات عادية لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا باللّه ،وهذا ما جعل شهادة التوحيد ممثّلة بكلمة «لا إله إلاَّ اللّه » دون غيرها من الكلمات .
الحقيقة الإلهية بأجلى تعبيراتها:
إنَّ الآية تطرح الحقيقة الإلهية ببساطة وعفويّة ،لا مجال فيها للتكلف والتعقيد ؛فها هي وحدانية اللّه تبرز واضحة جليّة لكلّ من كان له فكر ونظر ،عندما يدرس وحدة النظام الكوني وتناسقه ووحدة الرسالات السَّماوية وارتكازها على قاعدة واحدة ،وضعف القوى المنتشرة في الكون وسيرها إلى الفناء ،مما لا يجعل لأية قوّة مجالاً للاستعلاء الذي يرتفع إلى مستوى الألوهية .أمّا رحمته تعالى ،فإنها تنساب في كلّ مظهر من مظاهر النعمة والرعاية والعناية بالإنسان ،وفي كلّ ما يحيط به من أوضاع تتصل بحياته ومماته ،ويقظته ومنامه ،وأكله وشربه ،وملبسه وملذّاته ،وهكذا فإنها تعطي الصورة الواضحة على انطلاق الخلق كلّه من موقع الرحمة التي تريد أن تبني الإنسان على أساس الرحمة ليعمل النّاس على الوصول إلى هذا الهدف الكبير في نهاية المطاف .
القرآن والمنهج الفكري للإنسان:
وتأتي الآية الثانية حاملةً دعوة إلى العقل لأن يتحرّك في أجواء الكون ليكتشف اللّه من خلال اكتشافه لأسرار خلقه ،وتأكيداً على أنَّ قضية الإيمان هي قضية عقل وفكر لا قضية مزاج وعاطفة ،وإشارة ذكيّة موحية بأنَّ غفلة النّاس عن اللّه وابتعادهم عن سبيله ينطلقان من تعطيل العقل عن الحركة في اتجاه المعرفة بالابتعاد عن الأجواء والوسائل الطبيعية للمعرفة والإيمان ،ولا يرتبطان بواقعية الفكرة المضادة وقابليتها للامتداد في وجدان الإنسان كحقيقة فكرية حاسمة .