الغاية من خلق السموات والأرض
كيف يفكر هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا فرصتهم الأولى والأخيرة ؟
فيعتبرون أن لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان ؟وهم ينكرون أمر المعاد الذي سيواجه فيه الإنسان النتائج الإيجابية والسلبية على أعمال الخير أو الشر الصادرة عنه في حياته ،لتتوازن الحياة في دائرة الهدف الذي يحكم مسألة الوجود عنده ،ومسألة المسؤولية لديه .
ما معنى كلامهم هذا ؟
إنهم ينسبون العبث واللهو إلى خلق الله !فهل عملية الخلق هي لمجرد أن تثير الانفعالات المرضية في النفس من خلال ما تتوزعه من حركات ومشاهد وأوضاع ،وتخلقه من الأجواء اللاهية ثم تنتهي المسألة ؟وليس هناك إلا اللهو الذي يملأ الفراغ ،ويثير الإحساس ..ولا يترك وراءه أي شيء في طبيعة الواقع ،وحركة الوجدان ؟!
ولماذا يعبث الله أو يلعب أو يلهو ،لينسبوا ذلك إليه ؟!
إن هذه المعاني وليدة حاجة للإثارة ،ولملء الفراغ الذي يعانيه اللاعب أو اللاهي ،وللتخلص من حالة السأم والملل التي يعيشها ،مما لا يطيق معه الطمأنينة إلى الهدوء النفسي والسلام الروحي ،فيلجأ للعب واللهو ،ليلقى عندها بعضاً من الهدوء ..
ما يدّعيه هؤلاء هو من صفات المخلوقين الذين يعيشون الحاجة والفقر والفراغ والسأم والملل والارتباك ،فيتخلصون من ذلك بالعمل تارة ،وباللهو واللعب أخرى ..وهذا ما يجعل المسألة في أجواء المستحيل العقلي على الله ،ويجعل نسبة ذلك إليه عدواناً على مواقع عزته وجلاله ،ويوحي بالتخلُّف الفكري والسقوط الروحي اللذين يتمثلان في شخصية هؤلاء المتحدثين بهذه الطريقة ،ويدلل على أنهم لم يفهموا طبيعة الأسس والقوانين الإلهية التي تحكم الكون كله ،ما يجعل لكل ظاهرة قانوناً ،ولكل حادثة سبباً ..،وهذا ما أرادت هذه الآيات أن تثيره أمام الإنسان في تصويرها للمفاهيم الخاطئة المنحرفة المتخلفة التي كان يعيشها الناس في عهد الدعوة الإسلامية ،ويواجهها الدعاة إلى الله في كل زمانٍ ومكانٍ في مجتمعاتهم المتخلفة .
غاية الخلق
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} إنه النموذج الأمثل على الجد الذي لا جدّ مثله ،وعلى الحكمة التي تمتد إلى كل خصوصيات الأشياء ،وتنفذ في أعماقها ،حتى تجد أن هناك خطةً دقيقةً لهندسة الكون من بدايته إلى نهايته ،في استقراره واهتزازه ،وفي ضعفه وقوته ،وفي نموّه وتطوّره ،في الظواهر الكونية والاجتماعية ،في ارتفاع المجتمع وسقوطه ،وفي الحالات النفسية التي تحكم حركة الإنسان الداخلية ،وفي تأثّره بما حوله من الكائنات الحية والجامدة .وهكذا يجد المفكر الباحث في داخل وجدانه ،إحساساً عميقاً بأن وراء كل شيء في الوجود سرّاً وحكمةً ،ولذا فإن المشكلة المطروحة لديه ليست هي البحث عمّا إذا كانت الحياة خاضعةً لحكمة أو أنها مرتكزة على أساس الصدفة أو الفوضى ،بل المشكلة هي في اكتشافه نوعية الحكمة ،وطبيعة السرّ ،بعد أن كان وجوده من بديهيات الكون ،من ناحية المبدأ .
ولهذا فإن القضية التي تتحدث عنها الآية تتحرك لتأكيد نفسها في الوجدان العميق ،في خطين:
الأول: هو استحالة نسبة اللعب إلى الله لأنه لا يتناسب مع حكمته ،ولا يليق بجلاله ،ولا معنى له ،إذ يمثل اللعب حاجة ذاتية لملء الفراغ والحصول على الراحة النفسية مما لا يتناسب مع عظمتهسبحانهوغناه المطلق عن كل شيء ،وتنزيهه عن كل نقاط الضعف مهما صغرت .
الثاني: هو الدراسة الدقيقة للظواهر العامة في الكون والحياة والإنسان التي توحي بأن الأرض خاضعة للتخطيط الدقيق في عمق الجدية الحكيمة لأسرار السُّنّة الإلهية ،وبأن السماء والفضاء الذي يفصل بينها وبين الأرضفيما اكتشفه الإنسان منهماخاضع لمثل ذلك ،ما جعل الهاجس الذي يحسّ به العلماء والمكتشفون في ملاحظاتهم الدقيقة للظواهر ،هو البحث عمّا وراء ذلك الذي يحسون بوجوده ،بالفطرة والملاحظة ،ويعملون على معرفة كنهه .