الرسول يقود الصراع السلمي في مكة
كانت المرحلة التي تلت النبوّة في مكة ،مرحلة الدعوة إلى الإسلام بكل الأساليب السلمية ،وقوامها الكلمة الطيبة ،والأسلوب الهادىء ،والابتسامة الحلوة ،والقلب المفتوح ،والعقل المنفتح ،والصبر على التحديات ،باعتبار أن نجاح الإسلام في الوصول إلى الناس في المستقبل أمر محسوم من خلال وضوح أفكاره وتشريعاته ومناهجه ووسائله وأهدافه ،وهو وضوح قد يحجبه غبار التخلف والجهل والعصبيّة المتصاعد ،إلا أنه لا يلبث أن ينجلي ويفرض نفسه في نهاية المطاف .
وهكذا كان رسول الله ليّناً في كلامه ،رقيقاً في أسلوبه ،رحيماً في قلبه ،منفتحاً في عقله ،لطيفاً في ابتسامته ،في الوقت نفسه الذي كان فيه ثابتاً في موقفه ،صلباً في رسالته ،حاسماً في قراره ،مصرّاً على دعوته ،يتقبل التحديات بصبرٍ ووداعةٍ وانفتاحٍ وإيمانٍ ،ويتحمل الشتائم والإهانات ،والكلمات القاسية الموجّهة إليه من قبل المشركين ،ويتابع دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة ،ويجادلهم بالتي هي أحسن ،ويقودهم إلى الأخذ بالأساليب الهادئة ،وبالتفكير الموضوعي العقلاني في سبيل الوصول إلى الحقائق .
وكان المسلمون يتعرضون للعذاب وللاضطهاد والتعسف ،فيصبرون تارةً ،ويتشنجون أخرى ،ويعبّرون عن انفعالهم أمام رسول الله( ص ) بالكلمات الثائرة والأساليب القويّة ،التي تستعجل فتح المعركة مع المشركين ،ما داموا قد بدأوها بوسائلهم التعسفية الضاغطة المثيرة ،ويعلنون له بأنهم قادرون على تحقيق النصر إذا ما اجتمعت كلمتهم على موقفٍ واحدٍ متحد ،أو على إظهار القوّة في ساحة المواجهة ،على الأقلّ ،ما قد يدفع هؤلاء الذين يتعسفون في حقهم ويعملون على اضطهادهم وخنق حريتهم ،إلى أن يحسبوا ألف حساب قبل قيامهم بذلك ،لأنهم سيكيلون لهم الكيل كيلين ،والصاع صاعين ..وليس مهماً أن يموتوا كلُّهم أو بعضٌ منهم نتيجة المواجهة ،فإن ذلك أهون من الذل الذي يعيشونه بين قومهم ،وهم يملكون أن يكونوا في موقف العزّ ،إذا ما فعلوا ذلك .
ولكن النبي كان يقول لهم: إني لم أؤمر بقتال ،لأن المسألة مسألة رسالة تبحث عن مفتاح سحريّ تفتح فيه العيون والعقول والآذان على الحق في حركتها وفي مفاهيمها وشريعتها وغاياتها ،وتريد الوصول إلى هذا الهدف من قِبَل المؤمنين بها والرافضين لها ،حيث يقوم المؤمنون بالإعلان عنها ،والدعاية لها ،بترويج قناعاتهم الإيمانية بأنها تمثل الحق الذي لا ريب فيه ،أمَّا الكافرون ،فيثيرون الانتباه إليها ،عبر ما يوجهونه إليها وإلى الرسول من اتهامات ،أو عبر اضطهادهم للمؤمنين بها ،ما يثير التساؤل في نفوس من لم يسمعوا بها ،أو ينتبهوا إليها ،ويحثّهم على الانفتاح على ما تطرحه من موقع التفكير والتأمّل والحوار ،الأمر الذي قد يوصلهم إلى الإيمان من أقرب طريق ..
وهكذا كانت الدعوة الهادئة هي السبيل لانتشار الإسلام في الجزيرة العربية ،كرسالةٍ جديدة تثير الجدل ،وكحدث بارز يبعث على الاهتمام ،لا سيما وأنَّ الصراع يستهدف قريشاً التي تقف في موقع الزعامة الدينية والثقافية والتجارية لموقع مكة في حياة العرب ،ما يجعل لبروز الرسالة فيها أهمية تفوق الأحداث العادية في مكانٍ آخر ،مع أناس آخرين ..وهكذا دخلت مفردات الرسالة العامة في حياة الناس من خلال أسلوب الصراع السلمي الذي قاده رسول الله( ص ) في تلك المرحلة ..
وقد يكون موقف المظلوم والمضطهد في بعض الحالات ،سبباً في إثارة العطف وتهيئة جو التعاطف النفسي معه ،أكثر من موقف المقاتل والمعتدي والمتحدي ،وقد يكون تفجير الصراع عبر القتال سبباً في توجيه نظر الناس إلى المعركة ،وصرفهم عن عمق المعاني التي تكمن خلفها وتنطلق معها ،ما يمنع وصولهم إلى حقيقة القضية التي يدور فيها الخلاف وينطلق منها النزاع ..لهذا كان لا بد من مرحلةٍ تأخذ الدعوة فيها حريتها في الحركة والانفتاح ،وفي التخطيط الواعي للوصول إلى قناعات الناس وأفكارهم .
ولهذا كان النبي يأمر البعض بالصبر ،ويأمر البعض الآخر بالهجرة ..للتخفّف من الضغوط القاسية التي قد لا يتحملونها ،وللانفتاح بالدعوة على جماعات أخرى ،كما حصل في الهجرة إلى الحبشة ،أو للقيام بمهمة الإعداد للمجتمع الإسلامي الجديد ،كما في الهجرة إلى يثرب .
فكرة الدعوة ...محل نقاش
على أساس هذا الأسلوب المرحلي الذي اتّبعه النبي في الدعوة ،يستوحي البعض أن العمل للإسلام يستدعي توزيعه على عدة مراحل ،بحيث لا ننتقل إلى مرحلة جديدة إلا بعد استكمال المرحلة السابقة ،وهو وفق نظرتهم هذه يوزعون مراحل الدعوة على ثلاث: أولها: مرحلة الدعوة التي لا يجوز العمل السياسي فيها ولا الدخول في صراع مسلّح مع القوى المعادية خلالها .ثانيها: مرحلة العمل السياسي للوصول إلى الحكم والهيمنة السياسية على الواقع كله ،وهي مرحلة تحتاج إلى كثير من الجهد للوصول بالأمّة إلى النضج في اتخاذ قراراتها ،أو الوصول بها إلى مواقع متقدمة في ساحة المسؤولية العامة .ثالثها: مرحلة الجهاد المسلّح ،الذي تواجه فيه الأمة التحديات من مركز القوّة على كل صعيد .
وإذا كان التخطيط في العمل الإسلامي بهدف الوصول إلى الحكم والامتداد في حياة الناس الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ،ضرورياً برأينا ،وكانت دراسة كل مرحلةٍ من مراحل العمل بدقةٍ وموضوعيةٍ ،للتعرف على طبيعة تأثير الإسلام في الواقع ،وتأثر الناس به ،كقوّةٍ فاعلةٍ متحركةٍ في ساحة التحدي ،أو ردّ التحدّي ،لمعرفة ما يجب علينا أن نفعله أو لا نفعله في المرحلة اللاحقة ،أمراً ضرورياً أيضاً ،إلاّ أنّ الحديث عن المرحلية بهذه «الطريقة الهندسية » التي تضع حدوداً دقيقة لكل مرحلة ،بحيث تمنع أية مرحلة لاحقة من التداخل مع المرحلة السابقة أو الاقتراب منها ،قد لا يكون واقعياً بالمعنى الدقيق للكلمة لعدة أسباب:
أوّلاً: إن ساحة الدعوة إلى الإسلام كبيرة وتشمل بلداناً كثيرة من العالم ،ما يفرض تنوّعاً في الأسلوب بين البلاد الإسلامية وغيرها ،فالدعوة داخل البلاد الإسلامية تتعلق بالتفاصيل ،أو بتشكيل مفاهيم جديدة يستخرجها الداعية من الأحكام الشرعية ،ومقارنة تلك المفاهيم مع مفاهيم المبادئ الأخرى ،بأسلوب معاصر ،في سياق مواجهة التحديات الثقافية التي تفرض نفسها على الواقع الإسلامي من الخارج ..أما في البلاد غير الإسلامية ،فقد تحتاج الدعوة إلى عرض مفاهيم الإسلام العامة ،وتوضيح خطوطه العريضة ،ولكن بطريقة تختلف عن الطريقة التي استخدمت في صدر الإسلام ،وإن كانت تلتقي معها في بعض الأجواء ..
ثانياً: إن حركة المبادئ تختزن في داخلها حركة سياسية ،باعتبارها محاولةً لنسف القواعد الفكرية التي يرتكز عليها هذا الفكر السياسي أو ذاك ،لأن التعقيدات المعاصرة جعلت السياسة جزءاً من الاتجاه الفكري بعد أن كانت شأناً ذاتياً ،أو جزءاً من حركة الواقع على مستوى السطح ،ما جعل ساحة الصراع السياسي متداخلة مع ساحة الصراع الثقافي ،في الخطوط العامة والتفاصيل ،وفي حركة الواقع ،فلا يستطيع العاملون الابتعاد في حركتهم عن السياسة خلال المرحلة الثقافية ،لأن الآخرين لا يسمحون لهم بذلك .
ثالثاً: إن التوعية الفكرية تحوي من التعقيدات ما قد يفرض استخدام أساليب متنوّعة في التثقيف والتعبئة الثقافية لدى الأمّة ،ومنها أسلوبا الجهاد والممارسة السياسية ،لتوعية الأمّة بالقضايا المصيرية وبالتحديات الكبيرة التي تواجهها ،التي لا ينفع في الوصول إليها أي أسلوبٍ آخر ،لأن هذين الأسلوبين يعطيان للثقافة حيويةً دافقة في تشكيل الوعي ،بينما يمثل الأسلوب التقليدي أسلوباً جامداً تتنقل فيه الخطوات ببطء ،وتنطلق معه المواقف ببرودةٍ وهدوء ،الأمر الذي يفرض التداخل بين التحرك الثقافي والتحرك السياسي والجهادي .
رابعاً: إن واقع التحدّي قد يحمل للإسلام بعض الفرص التي تسنح بتحقيق انتصارات حاسمة على الساحة ،إذا ما تمّ استغلال تلك الفرص في العمل السياسي أو الجهادي للضغط على مواقع الأعداء وإسقاطهم ،ذلك أن ترك ذلك في وقته قد يتسبب في ضياع أكثر من فرصة للتحرير ،أو للتثوير ،أو في تحقيق مكاسب كبيرة على مستوى المستقبل .من هنا ،لا بد من التفكير في استخدام أساليب تجمع المسألة الجهادية بالمسألة الثقافية ،ليلتقيا بالمسألة السياسية التي تكون عبرهما أرضاً قوية صلبة وثابتة .
من خلال هذا العرض الموجز ،نريد التأكيد على أنّ حركة الدعوة إلى الإسلام على المستوى الثقافي والسياسي والجهادي ،لا تتأطر في خطوط عامة ترسم بشكلٍ دقيق ،بل تحتاج إلى مرونة تتداخل فيها المراحل ،أو تبعاً لما يستدعيه الواقع ،ما قد يفرض على الدعاة ملاحقة تطورات الواقع بشكل دائم ودراسة التأثيرات السلبية أو الإيجابية لأساليب العمل المستخدمة في الدعوة إلى الإسلام ،للاستفادة من ذلك في الوصول إلى النتائج العملية الحاسمة على أكثر من صعيد ،من أجل أن تكون الحركة الإسلامية قريبةً من الواقع ،وبعيدةً عن المثالية في التصوّر والممارسة .
بدء مرحلة القتال
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} لقد انتهت المرحلة التي كان اللجوء إلى العنف والقتال في ساحتها أمراً سلبياً ،لأن ذلك كان يشكل خطراً على التخطيط لانطلاقة الدعوة في الجزيرة العربية ،وللتحضير للمجتمع الإسلامي الأوّل في يثرب ،فقد شكّلت يثرب أرضاً صلبة جديدة للإسلام ،حيث بدأ يتحرك في نطاق واسع يملك أكثر من عمقٍ في محيطه ،الأمر الذي يحميه من حالة الاهتزاز والسقوط أمام ضغط المشركين ،ويجعله قادراً على فرض التحدي عليهم ،أو على مواجهة تحدياتهم الكبيرة .
وهكذا جاء الإذن للمؤمنين بالقتال ،معلَّلاً بالحيثيّة الإنسانية التي تبرّره رسالياً كونه شرطاً لتحقيق التوازن الإنساني على مستوى حركة الواقع ،فهم يقاتلون كردّ فعلٍ على قتال الآخرين لهم وظلمهم إياهم ،ويخوضون القتال المفروض عليهم للخروج من الظلم الذي مارسه المشركون بالضغط عليهم وخنق حريتهم .ولا بدّ لأيّة شريعةٍ سماويّةٍ أو أرضية من أن تمنح المظلومين حق الدفاع عن أنفسهم ،وتكفل لهم حرية ممارسة ذلك ،إذا أرادت للحياة أن تسير في خط العدل ،وأرادت للإنسان أن يؤكد معناه في حركة الواقع ،وهي إن لم تفعل ذلك ،تحوّلت الحياة إلى فرصةٍ للظالمين يصادرون فيها حرية المظلومين ،وهو أمر تأباه قاعدة التشريع الإنسانية ،ولا تقتضيه العدالة الإلهية .وهكذا لم تكتف الآية بتقرير الإذن الإلهي بالقتال ،بل أضافت إليه الوعد بالنصر الحاسم وذلك في قوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فلينطلقوا إلى القتال من موقع الشرعية والوعد الإلهي بالنصر ،وليعيشوا الثبات والقوّة القادرة ،بكل اندفاع واتزان .