{صَوَامِعُ}: جمع صومعة ،وهي: بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال والبراري ،ويسكنه الزهّاد والمعتزلون من الناس للعبادة ،والأصمعكما يقول الراغب: اللاصق أذنه برأسه ،وقلب أصمع: جريء ،كأنه بخلاف من قال فيه:{وَأَفْئِدَتُهُمْ هواء} [ إبراهيم: 43] .
{وَبِيَعٌ} ؛البِيَع: جمع بيعةبكسر الباءوهي معبد لليهود والنصارى .
{وَصَلَوَاتٌ}: جمع صلاة ،وهي: مصلى اليهود ،سمّي بها تسمية للمحل باسم الحال .وأصل الصلاة من الصّلاء ،قال: ومعنى صلّى الرجل: أي أنه أزال عن نفسه بهذه العبادة الصِّلاء الذي هو نار الله الموقدة ..ويسمى موضع العبادة الصلاة ،ولذلك سميت الكنائس صلوات كقوله:{لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} .
{وَمَسَاجِدُ}: جمع مسجد ،وهو موضع الصلاة اعتباراً بالسجود ،ويطلق على معبد المسلمين .والمساجدأيضاًمواضع السجود: الجبهة والأنف واليدان والركبتان والرجلان ،كما في مفردات الراغب
{الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} وهذا ما يضيف إلى الظلم ظلماً جديداً ،فقد يظلمك الظالمون ،فيخنقون حريتك في الكلمة والحركة ووسائل العيش ومواقع الحياة ،ويضيّقون عليك الساحة الواسعة ،ولكنهم مع ذلك يتركونك مع أهلك وولدك ،في أرضك التي ولدت فيها وترعرعت ،وعمّقت جذورك في جذورها ،حتى أصبحت جزءاً منها ،وأصبحت جزءاً منك ،وهكذا فإن وجودك في أرضك مع أهلك وأحبائك ،وما تلقاه من المباهج فيها ،يشعرك ببعض التعويض عما تصادفه من الالام فيها ..ولكن الذين يفرضون عليك الغربة ،ويخرجونك من أرضك ،ويقتلعونك من جذورك ،بعد أن يضغطوا على حريتك ،ويمنعوك من اختيار النهج الذي تتخذه لنفسك في الحياة ،والفكر الذي تتبناه ،والحركة التي تختارها ،هؤلاء الذين يشردونك ويبعدونك عن ملاعب صباك ،لا لشيء إلا لأنك تؤمن بالله الواحد ،وتعلن إيمانك هذا تقريراً للحقيقة الكونية التي ينطق بها الكون بأسره وتقول{رَبُّنَا اللَّهُ} في مواجهة كلّ شرك وثنيٍّ يشوّه الحقيقة ،ويبعد الإنسان عن صفاء التصوّر للعقيدة وللعبادة وللحياة ..هؤلاء هم الظالمون البعيدون عن خط العدالة الإنسانية ،لذا فإن قتالهم ما هو إلاّ لدفع ظلمهم المزدوج ،وماهو إلاّ عمل إنساني خدمة للإنسان في الحياة ،وخدمة للحياة بتأكيد خط العدالة فيها .
فطرة التدافع ..توازن الحياة
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً} .
إن حركة الصراع والتجاذب بين الناس ،تكفل للواقع التوازن الدائم بين قواه وتحفظ للحياة استقرارها وامتدادها وحيويتها ،حيث لا تعود السيطرة على الناس وقهرهم مقتصرة على قوة واحدة دون غيرها ،وبذلك يقي ميزان القوى الذي يرتفع في موقع ،وينخفض في آخر من وقوع ذلك ،أو يمنعه بأسلوب مباشر ،إذ هو يشكّل عاملاً نفسياً يمنع البعض من الاعتداء على الآخرين تحت عنوان الخوف ،أو يدفع البعض لتشكيل قوتهم لمواجهة القوى الأخرى .من هنا كانت إرادة الله سبحانه تقتضي عدم حصر القوّة في قطب واحدٍ في الحياة ،بل وزعها سبحانه على الناس جميعاً ،ليدفع بعضهم عن بعضهم الآخر ،في ما يهيّئه من وسائل واقعية تخدم ذلك .ولذلك كان تشريع القتال منسجماً مع هذه السنّة التي فطر الله الطبيعة الإنسانية عليها ،فقد أودع في الإنسان الكثير من الحوافز الغرائزية التي تتحفز لمواجهة أي خطر من الآخرين يهدد الذات ،بتعطيل أو إرباك أي مرفق من مرافق حياتها ،أو بالتأثير على أيّة مصلحةٍ من مصالحها ،لتستمر الحياة الاجتماعية للناس في نظام دفاعي ذاتيّ متوازن ..
بالتالي ،فإن هذا الإذن الإلهيّ في القتال ،انطلق من طبيعة الفطرة الإنسانية التي تستدعيه ،وهي طبيعة قد تنحرف عن الاتجاه السليم ،ولكن الله أراد أن يؤكد ضرورة القتال على أساس القيم الإنسانية الروحية التي تحركه في الاتجاه الصحيح ،الذي يحمي الإنسان ،ويمنعه من البغي والعدوان .
وهكذا ،نرى في قوله تعالى:{ولولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إشارة إلى سنّة الاندفاع الفطري لمواجهة الأخطار التي تهدد مصالح الإنسان الخاصة والعامة ،وقد لا تكون مختصة بالقتال فقطكما يرى البعضبل بكل الوسائل الفكرية والعملية التي يستخدمها الناس في ساحات الصراع ،وقد لا تكون هذه السنّة مقتصرةً على الإنسان ،بل تشمل بقية الموجودات الحية ،من حيوانات وغيرها ،إذ إن الله أودع فيها حافزاً فطرياً للدفاع عن نفسها بأكثر من وسيلةٍ ،لتحقيق التوازن في مجتمعاتها من خلال توازن القوى وتكافؤ الفرص ،وتساوي المواقع .
ولكن دلالة الآية على ذلك قد تكون بالإيحاء لا بالمدلول اللفظي للكلمة ،فالظاهر أنها جارية في أجواء الدفع القتالي في حركة القوّة ،لأنها أكّدت على منع تهديم المعابد التي هي مظهر حيويّ من مظاهر الحرية الإنسانية على مستوى الالتزام بالإيمان بالله على طريقةٍ خاصّة ،وهي حرية ذات تأثير على وجود الإنسان ذاتاً وحركة في الحياة ،فمسألة الحرية لا تقع على الهامش بالنسبة لتشكيل الذات ،بل تقع في الصميم ،لأن مَن لا حرّية له ،لا إنسانية له ،ذلك أن الضغط على الحرية يمثل إلغاءً للإنسانية ،لا سيما إذا كان ضغطاً يطال حريته في الإيمان بالله ،وهو إيمان يضع الإنسان على الخط المستقيم الذي يعبّر عن سرّ الوجود وفكرته وحركته ،وطبيعة العلاقة بالله وبالإنسان والحياة ،ما يوحي بأنّ الدفاع عن الإيمان أمرٌ حيويٌّ بالنسبة إلى وجود الإنسان ،في سبيل القضايا الكبيرة في حياته ،ما يجعل دفاعه دفاعاً عن القاعدة الروحية الثابتة في شخصيته ،باعتبار أنّ إيمانه بالله هو مرجع سلوكه الفردي والاجتماعي النابع من داخله ،المتحرك في حركته في الحياة مع الآخرين ..وهكذا كان دفع الناس بعضهم ببعض تأكيداً على حريتهم في العبادة في مواجهة التحديات ،ليكون المسجد والصومعة والبيعة ،الساحة التي يلتقي فيها الجميع ليعبدوا الله ،وليكتشفوا في داخلهم سرّ العبودية لله الواحد ،وليتمردوامن خلال هذا الوعيعلى كل مظاهر تأليه الإنسان ،فتكون الحياة كلها لله ،من خلال كون الدين كله له .
ولعل التعبير بالدفع الذي يعني حركة التحدي بطريقةٍ دفاعيةٍ أو وقائية ،يوحي بالمعنى الإنساني الذي يبتعد عن العدوان في خط الهجوم ويتحرك في خط حماية الحياة والحرية في دائرة ردّ العدوان ..
إنها سنّة الحياة وفطرة الله التي ينطلق منها الإنسان بشكلٍ طبيعيّ عفويٍّ لا يحتاج تشكيلها إلى تعقيدات التربية ،بل إلى نوعٍ من التخطيط والتنظيم الذي يعرّفه كيفية المحافظة على الخطوط التفصيلية في أوضاعه وعلاقاته وخطواته ،ليحفظ حركتهفي هذا الاتجاهمن الاهتزاز أو الانحراف أو السقوط ،بفعل العوامل الذاتية أو الخارجية التي قد توحي له بالشرّ في طريق الخير ،وبالانحراف في خط الاستقامة ،ليعرف هل هو سائر في الاتجاه الصحيح أو الخاطىء .
الله ينصر من ينصره
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} من خلال ما يهيِّئه له من وسائل النصر من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب ،وما يثيره في داخل نفسه من عوامل القوّة الروحية ،مما قد يحقق كثيراً من شروط النصر ،على المستوى المادي والمعنوي ..وربما تتدخل القوّة الإلهيةفي بعض الحالاتبطريقةٍ غيبيّةٍ تمهد بعض الأجواء التي قد لا تتحقق بدونها .وعلى كل حال ،فإن النصر الإلهي مهما اختلفت وسائله ،فإنه لا يبتعد عن السنن الإلهية المودعة في الكون بالطريقة المألوفة ،أو غير المألوفة ،في ما يأخذ به الإنسان من أسباب النصر ،التي هيفي عمقها الكوني والإنسانيمن الله الذي خلق الأسباب والمسبّبات ،سواء كانت بطريقةٍ مباشرةٍ ،أو غير مباشرةٍ .
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} فلا يستطيع أحد منعه من تحقيق ما يريد ،لأن قوته هي القوّة المطلقة التي لا تقف عند حد ،ولا يملك أحد أن يقف أمام إرادته ،في ما يحكم به أو يقدّره ،لأنه العزيز الذي لا يستطيع أحد أن ينتقص من عزّته شيئاً .