قد يعيش المؤمنون في صراعهم مع الكافرين والطاغين حالةً من الضغط القاسي الذي يهدّد الطمأنينة والشعور بالأمن والاستقرار ،لما يثيره الكافرون من مشاكل لهم ،وما يضعونه من عراقيل في طريقهم ،وما يفرضونه من حصار على تحركاتهم ،الأمر الذي يعيق تقدّمهم في اتجاه الوصول إلى تحكيم الإيمان في حركة الحياة ،كعنوانٍ لحكم الإسلام في فكره وشريعته ،ما يقودهم إلى اليأس والانسحاق تحت تأثير عوامل الضعف الذاتية والخارجية .ولكن الله يريد لهم الاستمرار في الانفتاح على الأمل الكبير القادم منه ،لأن التغيير في الحياة لا يحدث في حدود زمنية ضيّقة ،بل يحتاج إلى مدى طويل من الزمن والتخطيط ،يُعمَل فيه على محاصرة الخطط المضادّة ،وإضعاف القوى المعادية ،وتقوية المواقع الخيّرة الإيمانية ،مع مواكبة دائمة للمتغيرات والظروف المتحركة لدراسة إمكانات استغلالها في التحرك الجديد ..فإن تغيير الإنسان يختلف عن تغيير المكان ،لأن هندسة الشخصية الإنسانية تحكمها أفكار ومشاعر متحركة قابلة للتغيير وللتبديل مع كل المتغيرات الواقعية ،بينما تحكم هندسة المكان خطوط ثابتة لا تقبل التغيير والاهتزاز ..فالإنسان عنصر متحرك قلقٌ ،بينما الأرض والحجارة وما إلى ذلك عنصر ثابت مستقر ..
ولهذا ،فإن على المؤمنين مواصلة السير ،والأخذ بأسباب التغيير التي سنّها الله في الكون ،والتقوّي بوعد الله لهم بالنصر في مستقبل الحياة .
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} فيجعل لهم القوّة والسيطرة والخلافة ،بحيث يصبحون الأمناء على إدارة شؤون الأرض التي يسيطرون عليها{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة التي عاشت الاضطهاد والقهر والإذلال ،ولكن الله جعلها في موقع الانتصار والقوّة ،فاستطاعت تكوين مجتمعاتها الصالحة ،كما حدّثنا الله عن بعض هؤلاء في قوله تعالى:{وَمَا لنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ *وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أرضنا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} [ إبراهيم: 1213] وبذلك تكون الإشارة إلى القوم الصالحين الذين سبقوهم من أتباع الأنبياء .
وذكر بعضهم «أن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل ،لمّا أهلك الله فرعون وجنوده ،فأورثهم أرض مصر والشام ،ومكّنهم فيها كما قال تعالى فيهم:{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأرض} » [ القصص: 56] .
وقد رد عليهم صاحب تفسير الميزان بقوله: «إن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون وجنوده ،لم يصف من الكفر والنفاق والفسق ،ولم يخلص للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا حيناً على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة ،ولا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم وفيهم الكافر والمنافق والطالح والصالح .
ولو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهموهم بنو إسرائيلكيفما كان ،لم يحتج إلى أشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به ،وفي زمن نزول الآية ،وقبل ذلك أمم أشدّ قوّة وأكثر منهم كالروم والفرس وكلدة وغيرهم » .
ونلاحظ على هذه المناقشة ،أن المراد بالآية ،والله العالم ،هو المجتمع المؤمن الصالح من خلال الواجهة العامة التي تحكم مسيرته وهي الإيمان والعمل الصالح ،كعنوانين للخط الذي كان هو الأساس في اضطهادهم ،وليس من الضروري أن يكون كل أفراد المجتمع ملتزمين بالإيمان ،تماماً كما هو حال كل مجتمع يتحرك من أجل التخلص من وضع ظالم ،أو من حكم كافر ،أو من خطٍّ منحرف ،فإن المسألة التي تحكم قضية الاستخلاف فيه ،هي القيادة التي تتحرك معها الجماعات الكبيرة في المجتمع ،مع وجود أفراد قليلين أو كثيرين ،يخالفون توجّه القيادة ،أو الجماعات الملتزمة .
وهكذا رأينا أن الآية التي تحدث عنها هذا البعض ،كانت تتحدث عن الذين استضعفوا من بني إسرائيل في مقابل فرعون وهامان ،كما أشارت إليه فيما بعد:{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} [ القصص: 6] وذلك على أساس أنّ واجهة المجتمع الإسرائيلي هي الدعوة إلى الإيمان بقيادة النبي موسى ( ع ) مع الذين اتّبعوه ،في الوقت الذي بقيت فيه جماعات كثيرة من بني إسرائيل تعيش عقلية العبودية على أساس قيم المجتمع الفرعوني ،ولكنّ ذلك لا يمنع أن السلطة قد تغيرت من سلطةٍ يحكمها الكفر إلى سلطةٍ يحكمها الإيمان والعمل الصالح .
وقد يكون الاحتمال الذي ذكره هذا البعض ،في أن المراد ب{الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} بنو إسرائيل ،قريباً إلى الذهن ،باعتبار أن المرحلة التاريخية التي استطاعت فيها حركة الأنبياء إسقاط الطغاة ،والحصول على القوّة وتكوين المجتمع المؤمن المنفصل عن ضغط الطغاة ،هي مرحلة النبي موسى ( ع ) بعد مواجهته للطاغية فرعون ..ولم نجد في القرآن أيّ تلميح لمرحلةٍ يتحرك فيها المؤمنون من موقع التمكين لهم في الأرض إلا هذه المرحلة ،ما يبعث على اعتبار هذا التطبيق مقبولاً قرآنياً .
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارْتَضَى لَهُمْ} وذلك بانتشاره بين الناس ،بحيث يتحوّل إلى مركز قوّة في الساحة الفكرية والعملية ،لكثرة المنتسبين إليه ،والداعين إلى اعتناقه ،والمتحركين من خلال مفاهيمه ،والدارسين له ،والحاكمين باسمه ،ما يجعل من حركته في حياة الناس حركة قويّةً متجذّرةً في عمق الواقع الإنساني على أكثر من صعيد .
الله يبدّل خوف المؤمنين أمناً
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} عندما ترتفع الضغوط القويّة القاسية عن المؤمنين ،وتسقط التحديات الكبيرة أمام مواقع قوتهم ،وتكتمل لهم عناصر القوّة ،وتقلّ عناصر الضعف ،ويتحوّلون إلى أمّة كبيرة واسعة الانتشار ،كثيرة الموارد ،قويّة المواقع والمواقف والتحديات ...فهناك يعيشون الأمن الذي لا خوف فيه على أصل الوجود ،كما كانوا في بداية الدعوة ،لأن وجودهم غير محكوم لأيّ اهتزاز أو ضعف ،ويتحركون على أساس الواقع الطبيعي الذي قد يختلط فيه الأمن بالخوف تبعاً لما تفرضه مفردات الصراع العامة التي يدور حولها الخلاف وتتحرك فيها الحروب .
{يعبدونني لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} لأن المجتمع الذي يتحرك من خلال الإسلام بقوّة ،لا يسمح ببقاء الأوهام الكبيرة التي تسيطر على العقل والروح والشعور وتتحرك مع الواقع ،بحيث ترفع بعض الأشخاص في وعي الناس إلى مصافّ الآلهة ،لأنّ الإسلام في فكره التوحيديّ وفي مفاهيمه العميقة الدقيقة في تفسير الكون وحركة المجتمعات في الحياة ،لا يترك مجالاً لمثل هذه الأوهام الشركيّة ،بل يجعل التوحيد في العقيدة وفي العبادة أساساً لحركة الإنسان في الداخل والخارج .
وعلى ضوء ذلك ،نستطيع أن نفهم أن تغيير الحكم في المجتمع من خلال مراكز القوّة فيه ،هو الذي يحقق المناعة ضد الانحراف للمؤمنين ،وهو الذي يدفع الحائرين إلى السير في طريق الهدى بما يؤمّنه من أجواء الاستقامة ،ليُحصِّن الساحة من كل عوامل الاهتزاز والإضلال ،{وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ،لأن الكفر لا ينطلق ،في النظرة القرآنية ،من حالةٍ فكرية ثابتة ،تبرر للكفر مفاهيمه ،وتؤكّد له قناعاته ،بل ينطلق من الضغوط النفسية التي يستجيب فيها الإنسان للضعف الذاتي الكامن في داخله أمام تحديات مواقع القوة ،ولذلك فإن الإنسان في المجتمع المؤمن المتحرك في المواقع الحرّة للفكر ،وفي الافاق الواسعة للإيمان ،وفي الساحات الكبيرة للحرية وللعدالة ،لا يملك مبرراً للكفر ،لأن الشبهة الطارئة لا تتحول إلى عقدة في داخله ،لوجود الحرّية التي تقبل مناقشة كل الشبهات والإجابة عنها ،الأمر الذي يجعل من السير في طريق الكفر حالةً تنطلق من موقع العقدة لا من موقع الفكر ،بحيث يخرج الإنسان بها عن التزاماته في حركة الوجود ،التي تتطلب منه الاعتراف بالله إلهاً واحداً ،والسير على خط شريعته ومنهجه ..وذلك هو شأن الفاسقين الذين يعيشون الحرية أمام الله ،والعبودية أمام عبيده .
اختلاف المفسرين حول المقصودين بالاستخلاف
وقد اختلف المفسرون في تطبيق الآية على الواقع التاريخي أو المستقبلي ،وفي تحديد المقصودين بالذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين وعدهم الله بالاستخلاف .
فهناك من قال: إن المراد بهم أصحاب النبي ( ص ) الذين كانوا يعيشون الخوف والضغط والاضطهاد من قِبَل المشركين الذين كانوا يملكون السيطرة المطلقة على المؤمنين ،فوعدهم الله أن يجعلهم الخلفاء على الناس من بعدهم ويمكّنهم في الأرض ويبدّلهم من بعد خوفهم أمناً ،وهذا ما حدث لدى سيطرة النبي ( ص ) ومن بعده ،وسيطرة المسلمين على المنطقة كلها ..
وهناك من قال: إنها تعمّ الأمة كلها في ما أفاء الله عليها من انتصارات وفتوحات جعلتها في مدة طويلةٍ من الزمن تهيمن على الأمر كله ،حتى أصبح الإسلام القوّة الكبرى في العالم ،وشعر المسلمون بالعزة والكرامة والأمن والقوّة والسيطرة .
وهناك من قال: إنّ المراد بها الخلفاء الراشدون ،ومنهم من قال: إن المراد بها المهدي المنتظر ،وقد وردت عدة روايات في هذا الرأي أو ذاك .
وإننا نعتقد أن الآية جاءت من أجل أن تثير في نفوس المسلمين الثقة الكبيرة بالله وبأنفسهم ،وتكشف لهم الغيب الإلهيّ الذي يتحرك من سنن الله في الكون ،في ما يمنحهم الله من لطفه وفي ما يأخذ به الناس من أسباب النصر ،في الدعوة والحركة والجهاد ،في كل ما تحتاجه الحياة من عناصر القوّة للرسالة وللإنسان ،كي لا يتساقطوا تحت تأثير الضغوط الصعبة التي تطبق عليهم وتحيط بهم من كل جانب ،وكي لا يضعفوا أمام نوازع الضعف الكامنة فيهم ،ليستمروا في التحرك ،وليتابعوا المسيرة بقوّةٍ وجدٍّ وإخلاص ..
ولم تكن لتقتصر على مرحلة من المراحل ،أو جيلٍ من الأجيال ،لأنها تؤكد الموقف على أساس الإيحاء برعاية الله للإسلام والمسلمين على امتداد مسيرتهم في خط الحياة ،ولذلك فمن الممكن تطبيقها على كل مرحلةٍ استطاع الإسلام فيها أن يحكم ويمتد ويهيمن ،واستطاع المسلمون أن يعيشوا فيها الطمأنينة والقوّة والثبات ،وعلى كل مرحلة مستقبلية تتّصف بهذا الوصف .ولكن ،مهما اختلفت التطبيقات ،فلا بد من إدخال المرحلة الأولى للدعوة وذلك تثبيتاً من الله للمسلمين كي لا يخضعوا للاهتزازات التي كانت تتحرك في حياتهم ،وللضغوط المحيطة بهم ..ليثبتوا على المبدأ ،ويلتزموا بالإسلام .
جاء في نهج البلاغة كلام قاله علي ( ع ) لعمر ،عندما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب ،قال ( ع ):"إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة ،وهو دين الله الذي أظهره ،وجنده الذي أعزه وأمدّه ،حتى بلغ ما بلغ ،وطلع ما طلع ،ونحن على موعودٍ من الله ،والله منجز وعده وناصرٌ جنده ".
فلننطلق مع وعد الله ليكون عنواناً لكلّ مسيرتنا المتحركة بين الأشواك ،على طريق مزروعة بالألغام ،وفي مواجهة كل قوى الشر ،لنؤمن ،من مواقع الارتباط بالله في كل موقف ،والاعتماد عليه في كل شيء ،بأننا منتصرون ،مهما أطلت علينا أشباح الهزائم ،وأننا آمنون ،مهما أحاطت بنا عوامل الخوف ،وأننا الأقوياء ،مهما تحركت في حياتنا نقاط الضعف ،وأننا بالله ننتصر ،وبه نأمن ،وبه نملك القوة التي تمنحنا الثبات والصمود في كل المواقع .