سبب النّزول
روى كثير من المفسّرين .ومنهم السيوطي في «أسباب التنزيل » والطبرسي في «مجمع البيان » وسيد قطب في «في ظلال القرآن » والقرطبي في تفسيره ،مع بعض الاختلاف ،سبب نزول هذه الآية أنه: عندما هاجر الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم )والمسلمون إلى المدينة ،استقبلهم الأنصار بترحاب ،ولكن العرب تحالفوا ضدهم .لهذا كان المسلمون يبيتون ليلتهم والسلاح إلى جانبهم لا يفارقهم ،إذ كانوا في حالة تأهّب تامّ .وقد شقّ على المسلمين ذلك .حتى تساءل البعض: إلى متى يدوم هذا الوضع ؟وهل يأتي زمان نستريح وتطمئنّ أنفسنا ولا نخشى إلاّ الله ؟فنزلت الآية السابقة تبشرهم بتحقّق ما يصبون إليه .
التّفسير
حكومة المستضعفين العالمية:
تحدثت الآية السابقة عن طاعة الله ورسوله والتسليم له ،وقد واصلت الآيةموضع البحثهذا الموضوع ،وبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالمية التي: وعدها الله المؤمنين به .فقالت الآية مؤكّدة ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) .( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) ويجعله متجذراً وثابتاً وقوياً بين شعوب العالم .
( وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء الأحكام الإِلهية ،واستقرار الأمن واقتلاع جذور الشرك ،( ومن كفر بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون ) .
وعلى كلّ حال يبدو من مجمل هذه الآية أنّ الله يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح بثلاث بشائر:
1استخلافهم وحكومتهم في الأرض .
2نشر تعاليم الحقّ بشكل جذري وفي كلّ مكان ( كما يستفاد من كلمة «تمكين » ...) .
3انعدام جميع عوامل الخوف والإضطراب .
وينتج من كل هذا أن يُعبد الله بكلّ حرية ،وتُطبق تعاليمُه ولا يشرك به ،ويتمّ نشرُ عقيدة التوحيد في كلّ مكان .
ويتّضح ممّا يلي متى تمّ وعد الله هذا ؟أو متى سيتم ؟
بحوث
1تفسير عبارة ( كما استخلف الذين من قبلهم )
هناك اختلاف بين المفسّرين حول الذين أشارت إليهم الآية الشريفة من الذين استخلفوا في الأرض قبل المسلمين .
البعض من المفسّرين يرى أنّهم آدم وداود وسليمان( عليهم السلام ) ،حيث قالت الآية ( 30 ) من سورة البقرة حول آدم( عليه السلام )( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) وفي الآية ( 26 ) من سورة ص جاء بصدد داود( عليه السلام ) ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) .
وبما أنَّ سليمان( عليه السلام ) ورِث حكم داود( عليه السلام ) بمقتضى الآية ( 16 ) من سورة النمل فإنَّه قد استخلف في الأرض .
لكن بعض المفسّرينكالعلامة الطباطبائي في الميزاناستبعد هذا المعنى وَرَأى أنَّ عبارة ( الذين من قبلهم ) لا تُناسبُ مقامَ الأَنبياء .إذ أنَّ القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص الأنبياء .وإنّما هي إشارة إلى أمم خلت ،وكانت على درجة من الإيمان والعمل الصالح بحيث استخلفها الله في الأرض .
ويرى مفسرون آخرون أنَّ هذه الآية إشارة إلى بني إسرائيل ،لأنّهم استخلفوا في الحكم في الأرض بعد ظهور موسى( عليه السلام ) وتدمير حكم فرعون والفراعنة ،حيث يقول القرآن المجيد في الآية ( 127 ) من سورة الأعراف ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) ويضيف ( ونمكن لهم في الأرض ) أي جعلناهم حكاماً بعد أن استضعفوا في الأرض .
ولا شكّ في أنَّهُ كان في بني إسرائيلحتى في زمن موسى( عليه السلام )أشخاص عرفوا بفسقهم وكفرهم ،لكنّ الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين ،( وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض على هذا التّفسير ) ويظهر أن التّفسير الثّالث أقرب إلى الصواب .
2الذين وعدهم الله باستخلاف الأرض:
لقد وعد الله المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالاستخلاف في الأرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم بالأمن الكامل ،فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالاستخلاف ؟
هناك اختلاف بهذا الصدد بين المفسّرين: يرى البعض من المفسّرين أنّ الوعد بالاستخلاف خاصّ بأصحاب الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين استخلفهم الله في الأرض في عصر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) .( ولا يقصد بالأرض جميعها ،بل هو مفهوم يطلق على الجزء والكل ) .
ويرى آخرون أنّه خاصّ بالخلفاء الأربعة الذين خلفوا الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ويرى البعض أنَّ مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات .
ويرى آخرون أنَّه إشارة إلى حكومة المهدي ( عج ) الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم ،ويجري حكم الحقّ في عهده في جميع أرجاء العالم ،ويزول الاضطراب والخوف والحرب وتتحقق للبشرية عبادة الله النقية من كلّ أنواع الشرك .
ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل ،كما أنّ حكومة المهدي( عج ) مصداق لها ،إذْ يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي( عج ) يملأ الأرض عَدْلا وقسطاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً .
ومع كل هذا لا مانع من تعميمها .وينتج من ذلك تثبيت أُسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كلّ عصر وزمان ،وأنَّ لهم الغلبة والحكم ذا الأسس الثابتة .
أمّا قول البعض: إنّ كلمة «الأرض » مطلقة وغير محددة ،وتشمل كلّ الأرض ،وبذلك تنحصر بحكومة المهدي ( أرواحنا له الفداء ) ،فهولا ينسجم مع عبارة ( كما استخلف الذين من قبلهم ) ،لأن خلافة وحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل الأرض كلها .
وإضافة إلى ذلك فإنّ سبب نزول هذه الآية يبيّن لناعلى أقلّ تقديروقوع مثل هذا الحكم في عصر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( رغم حدوثه في أواخر حياته( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) .
ونقولها ثانية: إنّ نتيجة جهود جميع الأنبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد والأمن الكامل والعبادة الخالية من أيّ نوع من الشرك ،وذلك حين ظهور المهدي( عج ) ،وهو من سلالة الأنبياء( عليهم السلام ) وحفيد النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وهو المقصود في هذا الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ): «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ،اسمه اسمي ،يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً »{[2790]} .
وممّا يجدر ذكره هنا قول العلاّمة الطبرسي في تفسير هذه الآية: روي عن أهل بيت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول هذه الآية: «إنّها في المهدي من آل محمد »{[2791]} .
وذكر تفسير «روح المعاني » وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن الإمام السجاد( عليه السلام ) في تفسير الآية موضع البحث أنه قال: «هم والله شيعتناأهل البيتيفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا ،وهو مهدي هذه الأُمة يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً ،وهو الذي قال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم ...» .
وكما قلنا ،لا تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الآية ،بل بيان مصداقها التام ،وممّا يؤسف له عدم انتباه بعض المفسّرينكالآلوسي في روح البيانإلى هذه المسألة ،فرفضوا هذه الأحاديث .
وروى القرطبي المفسّر المشهور من أهل السنة عن المقداد بن الأسود عن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام »{[2792]} .
وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهديّ( عج ) وشرح أدلتها في كتب علماء السنة والشيعة ،يراجع تفسير الآية ( 33 ) من سورة التوبة .
3الهدف النهائي عبادة خالصة:
إنّ مفهوم عبارة ( يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) من الناحية الأدبية سواء كانت جملة حالية أم مستقبلية{[2793]} ،هو أن الهدف النهائي إعدادُ حكومة عادلة راسخة الأُسس ،ينتشر فيها الحقّ والأمن والاطمئنان ،وتكون ذات تحصينات أُسسها العبودية لله وتوحيده على نحو ما ذكرتهُ آية قرآنية أُخرى تذكر الغاية من الخلق ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ){[2794]} .
عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم .عبادة لا يحتاج الله إليها ،وإنّما يحتاج إليها البشر لطّي مراحل تكاملهم الإنساني .
وعلى هذا فإنّ الفكر الإسلامي ليس كالأفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في الحياة ،بل تكون للحياة المادية قيمة في الإسلام إن أصبحت وسيلة لتحقيق هدف معنوي سام ،فالاهتمام بكون العبادة خاليةً من شوائبِ الشرك نافيةً للأهواءِ الزّائفة ،يعني أنّه لا يمكن تحقق هذه العبادة الصافية إلاّ بتشكيل حكومة عادلة .
هذا ويمكن كسب مجموعة من الناس إلى جانب الحقّ بالتربية والتعليم والتبليغ المستمر ،ولا يمكن تعميم هذه الحالة في المجتمع إلاّ بتشكيل حكومة عادلة يقودها المؤمنون الصالحون ،ولهذا سعى الأنبياء إلى تشكيل مثل هذه الحكومة خاصّة الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فَبمجرَّد وصوله( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة المنورة ،وفي أوّل فرصة ،شكَّل نموذجاً لها .
ويمكن الاستنتاج من ذلك أنّ جميع الجهودمن حرب وسلام وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكريةتنصّب في ظلّ هذه الحكومة في مسيرة العبودية لله الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك .
ولابدّ من القول: إنّه لا يعني خُلو الأرضِ من المذنبين والمنحرفين في ظلّ حكومة الصالحين المؤمنين الذين يمكّنهم الله من نشر الحقّ والعدل ،وعبادته عبادة خالية من صور الشرك ،بل مفهوم هذه الحكومة هو أنها تُدار من قبل المؤمنين الصالحين ،والصفة السائدة في المجتمع هي خلوه من الشرك .وبما أن الإنسان خلق حرّاً ،فإن مجال الانحراف موجود حتى في أفضل المجتمعات الإنسانية ( فتأملوا جيداً ) .