القرآن ينظم الحياة العامة والخاصة للإنسان
تتناول هذه الآية حركة الناس في علاقاتهم الخاصة ،وما ينصرفون إليه من الأكل في بيوت بعضهم البعض ،وهي أمور تقتضيها طبيعة ظروفهم الخاصة ،أو ما تفرضها الأجواء الحميمة التي تشيع في علاقات القرابة والصداقة ،حيث تتفتح مشاعرهم الداخلية على بعضهم البعض ،فتجعلهم لا يجدون أيّ حرجٍ أو أيّة مشكلةٍ في تناول الطعام من بيوت أقربائهم أو أصدقائهم .وتتناول هذه الآيةإلى جانب ذلكالانفراد أو الاجتماع في الأكل ،وإلقاء الإنسان التحية على أصحاب البيت أو على نفسه عند دخول البيت ،إذا لم يكن هناك من أحد ..
وقد نستوحي من الحديث عن مثل هذه الأمور ،أن الإسلام يلاحق الإنسان في حياته الخاصة ،لينظم علاقاته فيها ،كإيحاء بأن هذا الدين لا يترك صغيرةً ولا كبيرةً من حركة الواقع ،إلاَّ وضع لها حكماً شرعياً ترخيصياً أو إلزامياً لتنظيم الحياة العامة والخاصة .
من أحكام دخول البيوت والأكل فيها
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وأمثالهم من أصحاب العاهات التي تجعل من اكتساب الرزق والعمل أمراً صعباً عليهم ،ما يجعلهم في حاجةٍ ماسّةٍ إلى تناول قوتهم من بيوت هؤلاء المذكورين في الآية ،وليس لهؤلاء خصوصية تجعل الحكم محصوراً بهم ،لكن التنصيص عليهم قد يعود إلى كونهم النموذج البارز في هذا الحكم الترخيصي فيما بين الناس الآخرين .
{وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ} إذا كانت إليكم حاجةٌ ،أو في الحالات الطبيعية من حياتكم{أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} وقد يكون في الحديث عن بيوت الناس أنفسهم إشارة إلى أن النظرة الإسلامية تريد أن تصنع من المجتمع الإسلامي وحدةً في حركة العلاقات والممارسة ،بحيث لا يجد فيه الإنسان فرقاً بين بيته وبيوت هؤلاء الناس من الأقرباء والأصدقاء ،من خلال ما توحي به الآيات التي تؤكد على أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ..{أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ} من البيوت التي جعل لكم أصحابها السلطة عليها وعلى ما في مخازنها من طعام ،في ما يوحي به إعطاء المفتاح من تمكين من البيت وما فيه .{أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي: بيت صديقكم ..
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} فليس هناك أية مشكلة في أن يأكل الرجل وحده دون أن ينتظر غيره ليؤاكله أو يشاربه ،كما كان يظن بعض الناس ،في ما يقال ،أثناء نزول الآية .
وقد نحتاج إلى التأكيدمن ناحية فقهيةعلى أن إذن الأكل في هذه البيوت التي ذكرتها الآية ،وارد في الحالات الطبيعية التي لا يعلم فيها بكراهة أصحابها لأكل الآخرين منها ،لأن الآية تشرّع عدم الحاجة إلى الإذن ،في الأوضاع التي لا يحتاج فيها الإنسان إليه ،وفي الوضع الطبيعي الذي يكون الداخل إلى البيت مقبولاً من أصحابه ،أما في حالات الكراهة البارزة التي تدل على رفضه للأكل ،فلا يجوز ،والله العالم .
التسليم: من آداب دخول البيوت
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} وهذا من آداب الدخول إلى البيوت ،فعلى الإنسان إذا دخل أي بيت من بيوت الناس أن يسلم عليهم ،وأما التعبير عنهم بكلمة{أَنفُسِكُمْ} فللدلالة على ارتباط المجتمع العضوي ،بحيث يكون بعضهم من بعض ،باعتبار أن ما يجمعهم من الإيمان يوحّدهم في دائرةٍ واحدة ،تماماً كما هو الجسد الواحد ،فإذا ما سلّم الإنسان على أخيه المؤمن ،كان كمن سلّم على نفسه ،وربما استوحى منها بعضهم أن على الإنسان أن يسلّم على نفسه في حال دخوله البيت إذا لم يكن فيه أحد ،لأن السلام على الآخرين بصفة أنهم نفسه يقتضي ذلك ..
وهكذا نجد أن السلام يمثل الكلمة التي توحي بالانفتاح على الآخرين بالمشاعر الطيبة السلميّة الوديعة ،وبالاحترام الاجتماعي لموقع أصحاب المنزل في منزلهم ،كما أنه إيذان بوجود الزائر بطريقةٍ لبقةٍ ،ما يفتح القلوب على بعضها البعض ،ويدفع إلى المحبة ،{تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ،في ما شرّعه الله من آداب اللقاء بين المؤمنين في الدائرة الاجتماعية التي أراد لها أن تتحرك في أجواء السلام الروحي الذي يعبر فيها كل واحد من الناس عن مشاعر السلام التي يحملها تجاه الآخر ،ما يجعل المجتمع يعيش في خير كثير دائم ،وروح طيبةٍ غنيّةٍ بالمعاني الروحية السلمية الخيّرة في حياة الإنسان ،{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات} التي تجعل الحياة العامة داخل المجتمع الإسلامي مباركة طيّبة في نظامها العام{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} في ما تتحركون به في خط العقل الواعي المستقيم على طريق الله .