التّفسير
البيوت التي يسمح بالأكل فيها:
تحدثت الآيات السابقة عن الاستئذان في أوقات معينة ،أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصّ بالأب والأُم .
أمّا الآية موضع البحث فإنّها استثناء لهذا الحكم ،حيث يجوز للبعض وبشروط معينة ،الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم ،وحتّى أنّه يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان ،حيث تقول هذه الآية أولا ( ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) .
لأنّ أهل المدينة كانواكما ورد بصراحة في بعض الأحاديثوقبل قبولهم الإسلام ،يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم ،ويتنفّرون من هذا العمل .
وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلامها ،تفرد لمثل هؤلاء موائد خاصّة ،ليس لاحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة ،وإنّما لأسباب إنسانية ،فالأعمى قد لا يرى الغذاء الجيد في المائدة ،وهم يرونه ،ويأكلونه ،وهذا خلاف الخلق السليم ،وكذلك الأمر بالنسبة للأعرج والمريض ،حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء ،وتقدم السالمين عليهما .ولهذا كلّه لم يشاركوهم الغذاء على مائدة واحدة .ولهذا كان الأعمى والأعرج والمريض يسحب نفسه حتى لا يزعج الآخرين بشيء .ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنباً إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة .
وقد استفسر من الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن هذا الموضوع ،فنزلت الآية السابقة التي نصّت على عدم وجود مانع من مشاركة الأعمى والأعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة{[2798]} .
وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثلاث من حكم الجهاد ،أو أنّ القصد أنّه مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى الأحد عشر بيتاً التي أشارت إليها الآية في آخرها ،ليشاركوكم في غذائكم .
إلاّ أن هذين التفسيرينكما يبدوبعيدان عن قصد الآية ،ولا ينسجمان مع ظاهرها .( فتأملوا جيداً ) .
ثمّ يضيف القرآن المجيد ( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) .
والمقصود بعبارة بيوتكم الأبناء أو الزوجات .
( أو بيوت آبائكم ) .
( أو بيوت أمهاتكم ) .
( أو بيوت إخوانكم ) .
( أو بيوت أخواتكم ) .
( أو بيوت أعمامكم ) .
( أو بيوت عماتكم ) .
( أو بيوت أخوالكم ) .
( أو بيوت خالاتكم ) .
( أو ما ملكتم مفاتحه ) .
( أو صديقكم ) .
بالطبع فإنّ هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية .
ثمّ تضيف الآية ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً ) .
ذكر أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن الأكل منفردين ،بل كانوا يبقون جياعاً لمدّة حتى يجدوا من يشاركهم غذاءهم ،فعلمهم القرآن المجيد أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية أو فردية{[2799]} .
ويرى البعض: إنّ مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء الضيف على حدة احتراماً له ،ولا يشاركونه الغذاء ( حتى لا يخجل أثناء تناوله الطعام ) .
لقد رفعت الآية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير محمودة{[2800]} .
وقال آخرون: إنّ البعض كان يرى عدم جواز تناول الأغنياء الغذاء مع الفقراء ،والمحافظة على الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام .لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطىء والظالم بذكره العبارة السابقة{[2801]} .
ولا مانع من احتواء الآية السابقة لكلّ هذه المعاني .
ثمّ تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية فتقول: ( وإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ) واختتمت بهذه العبارة ( كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) .
وقال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من عبارة «بيوتاً » في هذه الآية ،هي البيوت الأحد عشرة المذكورة سابقاً .
وقال آخرون: إنّها المساجد .
ولكن يبدو أنها عامّة ،تشمل جميع البيوت ،سواء الأحد عشر بيتاً التي يجوز للمرء الأكل فيها ،أو غيرها كبيوت الأصدقاء والأقرباء .حيث لا يوجد دليل على تضييق المفهوم الواسع لهذه الآية .
ولكن ما هو المقصود من عبارة ( سلّموا على أنفسكم ) ؟
نجد هنا عدداً من التفاسير: حيث يرى البعض من المفسّرين أنّه سلام البعض على البعض ،مثلما جاء في قصّة بني إسرائيل ( سورة البقرة الآية 54 ) ( فاقتلوا أنفسكم ) .
ورأى آخرون أنّه يعني السلام على الزوجة والأبناء والأهل ،حيث هم بمنزلة النفس ،لهذا استخدمت الآية تعبير «الأنفس » ،كما جاء هذا التعبير أيضاً في آية المباهلة ( سورة آل عمران الآية 61 ) .وهذا يبيّن لنا أن قرب الشخص من الآخر قد يصل إلى درجة أنّه يكون كنفسه ،أي يكونان كنفس واحدة ،مثلما كان عليّ( عليه السلام ) من الرّسول محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد ،حيث يحيي المرء نفسه عند دخولها فيقول: السّلام عليكم من قبل ربّنا .أو: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .ونرى عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير .حيث يجب السلام عند الدخول إلى أيّ منزل كان ،ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض ،ويسلّم أهل المنزل أحدهم على الآخر .وأمّا إذا لم يجد أحداً في المنزل فيحيي المرءُ نفسه ،حيث تعود هذه التحيات بالسلامة على الإنسان ذاته .
لهذا نقرأ في حديث عن الإمام الباقر( عليه السلام ) يجيب فيه على سؤال يخصّ تفسير هذه الآية فيقول: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم »{[2802]} .
وفي حديث عن الباقر( عليه السلام ) أيضاً ،يقول فيه: «إذا دخل الرجل منكم بيته فإنّ كان فيه أحد فليسلم عليه ،وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا ،يقول الله عزَّ وجلّ «تحيّة من عند الله مباركة طيبة »{[2803]} .
بحوث
1هل أن تناول غذاء الآخرين غير منوط بإذنهم ؟
كما شاهدنا في الآية السابقة ،أنّ الله تعالى سمح أن يأكل الإنسان في بيوت أقربائه المُقرّبين وبعض الأصدقاء وأمثالهم ،وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتاً .ولم تشترط الآية استئذانهم لتناول الطعام ،ولا شك في عدم وجوب الاستئذان .إذ أنّ بوجود الإذن بالأكل يمكن تناول الغذاء العائد لأي شخص ،وبذلك لا تبقى ميزة لهذه المجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتاً .
فهل يشترط توفر الرضى القلبي بتناول الغذاء «وكما يقال من شاهد الحال » .بسبب الصلة الوثيقة بين الطرفين إن ظاهر اطلاق الآية ينفي هذا الشرط ،إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة يحصل الرضى .
أمّا إذا كانت الحالة تؤكّد عدم رضى صاحب الطعام في تناول غذاءه ،فبالرغم من إطلاق الآية وشمولها لهذا المورد أيضاً ،إلاّ أنّه لا يبعد انصراف الآية عن هذا المورد ،وخاصّة أنّ مثل هذا المورد نادر الوقوع ،ومن المعلوم أنّ الإطلاقات لا تشمل الأفراد النادرة .
وعلى هذا فإنّ الآية المذكورة تخصص الآيات والرّوايات التي تشترط في التصرف بأموال الآخرين احراز رضاهم في دائرة محدودة .وتكرر القول بأن هذا التخصيص .في نطاق محدد ،أي تناول الغذاء بمقدار الحاجة تناولا بعيداً عن الإسراف .
والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا .وجاء بعضه بصراحة في الأحاديث الإسلامية ،حيث ذكر رواية معتبرة عن الإمام الصادق( عليه السلام ) أنّه قال عند الاستفسار منه عبارة «أو صديقكم » الوارد في هذه الآية قال( عليه السلام ): «هو والله الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه »{[2804]} .
كما ذكرت أحاديث أُخرى بهذا المضمون ،أكّدت أنّه لا يشترط الاستئذان في هذه الحالات .( وبالطبع لا يوجد خلاف بين الفقهاء حول عدمِ جواز الأكل من غذاء الآخرين دون استئذان ،الذي نهت عنه الآية بصراحة مع العلم بهذا النهي .لهذا أهملت الآية السابقة ذكرهُ ) .
وحول عبارتي «عدم الإفساد » و«عدم الإسراف » فقد صرحت بعض الأحاديث بذلك أيضاً{[2805]} .
ولا بد من الإشارة إلى أنّه ورد حديث في هذا الباب يقول بأنّه يمكن الاستفادة فقط من غذاء خاص وليس أيّ غذاء ،إلاّ أنّ الفقهاء أعرضوا عن هذا الحديث لضعف سنده .
واستثنى بعض المفسّرين الأطعمة الممتازة التي يحفظها صاحب المنزل لنفسه ،أو لضيوفه المقربين ،أو لمناسبات خاصّة .وهذا الاستثناء غير بعيد ،بسبب انصراف الآية عنه{[2806]} .
2فلسفة هذا الحكم الإسلامي:
يمكن أن يثير هذا الحكم تساؤلا بالمقارنة مع الأحكام الشديدة التي نصت عليها التعاليم في تحريم الغصب ،هو: كيف سمح الإسلام بذلك ،رغم تشديده في قضية التصرف بأموال الآخرين ؟!
إنّنا نرى أنّ هذا السؤال ينسجم مع طبيعة البيئات المادية تماماً ،كالمجتمع الغربي ،حيث يطرد الأبناء من المنزل حين البلوغ !ولا يهتمون بالوالدين حين إصابتهم بالعجز أو الشيخوخة !حيث نشاهد الأبناء هناك ،لا يثمنون أتعاب الوالدين ولا يشفقون عليهما ،بسبب تسلط التفكير المادي على العلاقات الإجتماعية في الغرب !ولا خبر هناك عن العاطفة الإنسانية والشفقة !
إلاّ أنّ التعاليم الإسلامية والعواطف الإنسانية التي تمتد جذورها في المجتمع الإسلامي ،خاصّة بين الأهل والأقرباء والأصدقاء ،قد ميّزت المجتمع الإسلامي عن المجتمع الغربي .
والواقع أنّ الإسلام جعل علاقات الأقرباء والأصدقاء أسمى من الأُمور المادية ،وهذا يعكسه الصفاء والود اللذان يسودان المجتمع الإسلامي الحقيقي ،حيث يبتعد أفراد هذا المجتمع عن الصفات غير المحمودة كالبخل وحب الذات .
ولا ريب أن أحكام الغصب تكون نافذة في غير هذه الدائرة .ولكن الإسلام في داخل هذه الدائرة يفضل القضايا العاطفية والروابط الإنسانية ،فهي التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الأقرباء والأصدقاء جميعاً .
3من هو الصديق ؟
لا شك أنّ للصداقة مفهوماً واسعاً ،وهي تعني هنا بالتأكيد الأصدقاء الخاصين الذين تربطهم علاقات وثيقة ،وهذه العلاقة توجب التزاور فيما بينهم والأكل من طعام الآخر ،ولا حاجة هناكما أسلفناإلى احراز الرضا ،بل يجوز الأكل بمجرّد عدم العلم بعدم رضا صاحب الغذاء .
لهذا قال بعض المفسّرين حول هذه الآية: الصديق هو الذي يصدق في علاقاته معك .
وقيل: الصديق هو الذي يصدّق ظاهره باطنه وكما يبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة .
ويتّضح من هذه العبارة أنّ الذي لا يسمح بمشاركة صديقه لغذائه ،لا يمكن اعتباره صديقاً !
ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثاً عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) ضمّ مفهوم الصداقة الواسع وشروطها الكاملة:
«لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها ،فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ،ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة .
فأوّلاها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة .
والثّاني: أن يرى زينك زينه وشينك شينه .
والثّالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال .
والرّابعة: أن لا تمنعك شيئاً تناله مقدرته .
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات »{[2807]} .
4تفسير عبارة ( ما ملكتم مفاتحه )
جاء في بعض أسباب النّزول أنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا يسلمون أحياناً مفاتيح منازلهم إلى الذين لا يشملهم الجهاد .حين توجههم إلى الجهاد في سبيل الله .وكانوا يسمحون له بتناول الطعام من هذه المنازل ،إلاّ أنّ هؤلاء كانوا يمتنعون من الأكل في هذه المنازل خوفاً من ارتكاب إثم في ذلك .
وحسب هذه الرواية فإنّ المراد من عبارة ( ما ملكتم مفاتحه ) هو ما ذكرنا{[2808]} .
وروي عن ابن عباس أيضاً أن قصد الآية هو وكيل الشخص على ما يملكه من ماء وبستان ومواشي ،حيث سمح له بتناول الفاكهة من بستان الموكّل بقدر حاجته والشرب من حليب ماشيته .
كما فسّر آخرون ذلك بحارس المخزن الذي يسمح له بتناول قليل من المواد الغذائية الموجودة في هذا المخزن .
ومع ملاحظة سائر المجموعات التي ورد ذكرها في هذه الآية ،يبدو أنّها تقصد الذين يسلمون مفاتيح منازلهم لأشخاص موثقين ومقربين لهم ،وهذا التقارب الوثيق بينهما يؤدي إلى أن يكونوا في صف الأقرباء والأصدقاء المقرّبين ،وسواءً كان وكيلا رسمياً أم لا .
وإذا لاحظنا أنّ بعض الأحاديث تفسر عبارة ( ما ملكتم مفاتحه ) بالوكيل الذي يتعهد بالإِشراف على أموال شخص آخر ،فإنّ ذلك مصداق للآية وليس لتحديد معناها وحصرها بهذا التّفسير .
5السلام والتحية
«التحية » مشتقّة من الحياة ،بمعنى الدعاء لسلامة الآخرين ،سواء كانت بشكل السلام عليكم ،أو السلام علينا ،أو قولا كحيّاك الله ،فكل هذا إعراب عن المحبة التي يبديها الشخص عند لقائه بآخر ،وتدعى بالتحية .
ويقصد بعبارة ( تحية من عند الله مباركة طيبة ) .ربط التحية بالله بشكل ما ،أي «السلام عليكم » ،سلام الله عليكم ،أو نسأل الله أن يسلمكم ،إذ أن كل موحّد يرى ربط الدعاء بالله ،وطبيعي أنّ الدعاء بهذا الشكل يكون مباركاً وطيباً .( تناولنا بحث السلام وأهميته ووجوب الردّ على التحية ،في تفسير الآية 86 من سورة النساء ) .