/م62
التّفسير
لا تتركوا النبيّ وحده !
قال بعض المفسّرين حول علاقة هذه الآيات بسابقتها ،وفيهم المرحوم «الطبرسي » في مجمع البيان «وسيد قطب » في تفسير في ظلال القرآن: بما أنّ الآيات السابقة طرحت للبحث جانباً من أُسلوب التعامل مع الأصدقاء والأقرباء .فإنّ الآيات موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين مع قائدهم النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) .وقد أكّدت التزام الوقار أمامه ،وطاعته وعدم ترك الجماعة إلاّ بإذنه .
ويمكن أيضاً أنّ الآيات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة الله ورسوله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ومن علائم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه ،لهذا تحدثت الآياتموضع البحثحول هذا الموضوع .فتقول أوّلا: ( إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) .
والمراد من «أمر جامع » كلّ عمل يقتضي اجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم ،سواء كان عملا استشارياً ،أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو ،أو صلاة جمعة في الظروف الإستثنائية وأمثالها .
وإذا وجدنا أنّ بعض المفسّرين ،قالوا بأنّه يعني الإستشارة أو الجهاد أو صلاة الجمعة أو العيد فنقول: إنّهم عكسوا جانباً من معاني هذه الآية .وأسباب النّزول السابقة أيضاً هي من مصاديق هذا الحكم العام .
وفي الحقيقة إنّ هذا من شروط النظم والتنظيم ولا يمكن لأية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله ،فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضرراً بالهدف النهائي ،خاصّة إذا كان قائد الجماعة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلامه مطاع .
كما يجب الانتباه إلى أنّ الإذن لا يعني الاستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخاصّة والتفرغ لتجارته .وإنّما أن يكون صادقاً في الاستئذان .فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضرراً ،فمن حقه أن لا يأذن له ،وعليه أن يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى .لهذا تضيف الآية: ( إنّ الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ) .
ومن الواضح أنّ هؤلاء المؤمنين لا يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أنّهم اجتمعوا لأمر أهم ،والمقصود من عبارة «شأنهم » ،الأعمال الضرورية والمهمّة فقط .
ومن جهة أخرى ،لا تعني إذن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) للأشخاص دون دراسة جوانب المسألة وأثر حضور وغياب الأفراد ،بل جاء هذا التعبير ليطلق يد النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأن لا يأذن لأحد حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة .
ودليل هذا الكلام ما جاء في الآية ( 43 ) من سورة التوبة حيث يلام الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) لإذنه بعض الأفراد: ( عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) .
وتبيّن هذه الآية كيف أوجبت على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) التحقيق قبل الإذن ،وأن يلاحظ أبعاد هذه المسؤولية الإلهية .
وتقول الآية في الختام: ( واستغفر لهم الله إنّ الله غفور رحيم ) .
و هنا يطرح سؤال: ما الغرض من هذا الاستغفار ؟فهل هم مذنبون رغم أخذهم الإذن من الرّسول بالمغادرة ،كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم ؟
و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان:
أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيهاً على أنّ الأوْلى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن لهم ،لأن ذلك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخاصّة على مصلحة المسلمين ،ولا يخلو هذا الأمر من «ترك الاولى » ولذا يحتاج الى الاستغفار ( كالاستغفار على عمل مكروه ){[2809]} .
كما تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الاستئذان بالقدر الممكن .واتباع التضحية و الإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أوْلى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط .
و الوجه الثاني: يحتمل أنّه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتمسّكهم بآداب اللّه تعالى في الاستئذان{[2810]} .
ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين ،كما أنّه من الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه فقط .وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كلّ قائد إلهي ،سواء كان نبياً أم إماماً أم عالماً نائباً لهما ،حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة .كما يحتمهإضافة إلى القرآنالعقل والمنطق ،لأنّ استمرار التنظيم يتوقف على رعاية هذه المبادىء ،ولا يمكن إدارة المجتمع بدونها .
و المدهش تفسير كبار مفسّري أهل السنة لهذه الآية بأنّها دليل على جواز الاجتهاد وتوقف الحكم على رأي المجتهد .ولا يخفى أنّ الاجتهاد المطروح في مباحث الأصول والفقه يخص الأحكام الشرعية ،ولا يتعلق بالاجتهاد في الموضوعات حيث أنّ الاجتهاد في الموضوع لا يقبل الإنكار ،فكل قائد جيش أو مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا الإجرائية الخاصّة بدائرة عمله .وليس هذا دليلا على إمكان الاجتهاد في الأحكام الشرعية العامّة بإيجاب حكم بدعوى المصلحة العامّة ،أو نفي حكم أو تشريع آخر .