الإيمان الحق
ابتدأت السورة الكريمة بقوله تعالى:{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 1 )} وأنزل سبحانه وتعالى ما يكون وقاية للأسر ، من عقوبات للزناة ، والذين يرمون المحصنات الأطهار ، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وبينت أمرا أهم المسلمين جميعا ، وهو حديث الإفك ، ثم تكلمت في نور الإيمان وظلمات الكفر ، ثم تكلمت على عورات الأسرة في داخلها وحماية آحادها ، وانتقلت السورة من حماية الأسرة إلى حماية الجماعة المؤمنة ، وحمايتها بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ، وطاعة الإمام العادل الذي يخلفه بشورى المؤمنين ، واختبارهم من بعده ، فقال تعالى:
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} .
{ إنما} هنا أداة قصر ، أي أن المؤمنين حقا وصدقا وحدهم دون غيرهم هم الذين يؤمنون بالله ورسوله ، إيمان إذعان وتسليم ، لا إسلام تردد أو تمرد ، كضعاف الإيمان المنافقين الذين في قلوبهم مرض النفاق وهو أشد أمراض القلوب ، بل إنه داؤها الدوي ، وأن يكون في حال تظلهم ، ولا يخرجون عنها ، وهذا الحال التي عبر عنها سبحانه بقوله{ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} .
أي إذا كانوا مع الرسول على أمر جامع لهم كشورى في مصلحة تهم المؤمنين ، أو دفع ضرر يعمهم إن وقع ، أو مداهمة عدو يغير عليهم ، أو الخروج لغزوات اضطرت الأحوال للخروج إليها كغزوة تبوك أو نحو ذلك ، يجتمعون حوله لمبادلة النظر ، ثم يذهبون إليه مجتمعين على كلمة الحق وأمر الرسول ، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله:{ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ، فإن هذا الكلام يتضمن اجتماعهم ، كأنه مطوي كلمة اجتمعوا ، ويكون سياق الكلام ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى:وإذا كانوا معه على أمر جامع ودعاهم اجتمعوا له ، ولم يذهبوا حتى يستأذنوه ، أي يدخلون في الأمر الجامع مجتمعين غير متفرقين ، وقوله تعالى:{ لَمْ يَذْهَبُوا} "لم"لنفي الماضي ، وهذا دليل على أنهم اجتمعوا معه ، فهو عطف نفي في الماضي على اجتماع قبله .
وما حدود الأمر الجامع ؟ حاول أن يضبطه القرطبي فقال:نقلا من بعض الأقوال:
المراد به ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس لإذاعة مصلحة من إقامة سنة في الدين ، أو لترهب عدو باجتماعهم ، وللحروب ، قال تعالى:{ وشاورهم في الأمر . . . ( 159 )} [ آل عمران] فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك{[1576]} .
وخلاصة هذا القول والأقوال التي ساقها من بعد أن يكون أمرا عاما يجمعهم ليتشاور فيه معهم ، إذ يكون له أثر في الناس من بعد ، ولعلاج حال قائمة ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك كما شاورهم في غزوة أحد ، وفي غزوة الخندق وكما جمعهم لغزوة تبوك .
وكان خلفاؤه كذلك من بعده ، فجمعهم أبو بكر لمقاومة الردة ، وجمعهم عمر لتقسيم الأراضي بين الغزاة ، أو بقائها تحت يد ولي الأمر العادل ، وكما جمعهم لاستشارتهم في خروجه بشخصه إلى الحرب ، إذ تكاثر الفرس على المؤمنين ، فأرادوا أن يخرج إليهم ، فجمعهم ، ونهاه علي ، وبرأيه أخذ المجتمعون رضي الله عنهم أجمعين ، وإن الاستئذان لا ينقص الإيمان ، ولذا قال:{ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} الفاء للإفصاح{ لبعض شأنهم} بعض أحوالهم الخاصة بهم التي يجدون حرجا عليهم في أن يذهبوا مع الغزاة أو يستمروا مع المجتمعين لأمر ما:{ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} الفاء واقعة في جواب{ لمن شئت منهم} ولا يشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإمام العادل من بعده إلا ما هو خير ومصلحة ، فيكون الإذن لمن لا يضر الإذن له ، ولمن يعلم حاجته إلى التخلف ، ولمن يعلم صدقه ، ومن يأذن له يطلب الغفران له ، ولذا قال تعالى:{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ} السين والتاء للطلب أي اطلب المغفرة لهم ، وظاهر النص أن طلب الغفران لمن أذن لهم ، وذلك يومئ إلى أنه كان الأولى بقاؤهم مع المجتمعين على أمر يصح أن نقول:إن طلب الغفران لهم جميعا ، ليكونوا جميعا في رحمة الله تعالى ، وقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} غفور يغفر الذنوب جميعا مع التوبة النصوح ، فهو التواب الذي يقبل من عباده التوبة ، وهو رحيم ، والرحمة صفة من صفاته جل وعز ، رحمهم بما بين لهم من شرائع منظمة لجموعهم ، وحاكمة بينهم ، ورحيم بغفرانه لما يجترحون من سيئات ، ويتوبون بعد من قريب .