التعاون في الأسرة
قال تعالى:
هذه الآية الكريمة واضحة في بيان التعاون في الأسرة في المال وما توجبه النفقات ، وكأن مال الأسرة شركة بينهم ، وإنها شركة يفرضها التعاون ، وسد حاجة المحتاج ، بحيث يعطي الغني القادر من فضل ماله ما يسد حاجة الفقير العاجز ، وكأنه يسد حاجة نفسه ، وبذلك تكون القرابة والمودة ، هي الرابطة بين الناس لا النظم التي تسلب الغني ملكيته ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه ){[1574]} ، ولا يطمع الفقير في مال لم يكسبه ، فيكون أخذه إياه اغتصابا .
وهذه الآية تقرر أمرين ، هما ما يؤخذ بسبب القرابة من نفقة ، وما يكون إباحة من ذي مال كصديق ، أو رجل فاضل أعطاه مفاتحه ، وعلى ذلك نقول:إن الآية اشتملت على أمرين:أولهما:نفقة القريب ، والثاني:الأخذ من مال قد أبيح له . وشرط الأمرين أن يكون فقيرا عاجزا عن الكسب ، ولذلك ابتدأت بذكر ما يومئ عن العجز ، والفقر ، وقد كان الأمر بالأخذ لا جناح فيه ولا إثم إشارة إلى أن الإعطاء مودة ورحمة ، وتبادل لها بين المعطي والآخذ ، ونفي الجناح فيه إشارة إلى الاحتياج ، بل الاضطرار .
قال تعالى:{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} ، أي ضيق أو إثم ، وهذا فريق الفقراء العاجزين الذي يشترط فيهم مع الفقر العجز عن الكسب ، ثم قال تعالى:{ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} ولم يذكر في هذا العجز ، بل ذكر مطلقا عن العجز ، فهذا يدل على أن العجز ليس بشرط بالنسبة لأنفسكم ، والجواب عن ذلك هو شرط بالنسبة للجميع ، إلا من يعتبر ماله هو ماله كالأب وولده والأم وولدها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:"أنت ومالك لأبيك"{[1575]} ،{ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} ذكر البيوت مضافة إلى من يأخذ النفقة ، فيه إشارة إلى تشابه بيت طالب النفقة والمطلوب منه ، فهما كبيت واحد بالنسبة للمستحق للنفقة ، إذ هو كبيته لما بينهما من قرابة أوجبت هذا التعاون .
{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ} ويلاحظ هنا ملاحظتين:
أولهما:أن ( أو ) ليست للتخيير المجرد ، إنما هي تدل على الترتيب الأقرب فالأقرب ، فالأول الآباء ، فإن لم يكن فالأمهات بأن كان الآباء عاجزين ، وهكذا يتوالى الوجوب الأقرب فالأقرب بشرط أن يكون قادرا على الإنفاق على نفسه وغيره .
الثانية:أن هؤلاء الأقارب لوحظ أنهم أقارب ذوو رحم محرم منه تستحق النفقة ، وبذلك اشترط الحنفية لاستحقاق النفقة على القريب أن يكون ذا رحم محرم منه ، وعدوا الميراث مرجحا ولم يعدوه شرطا أساسيا ، بحيث لو كان قريبان أحدهما ذو رحم محرم ووارث ، يرجح على الآخر إذا كان ذا رحم محرم فقط ، وإذا كان وارث كابن العم ، وبنت الأخ لا نفقة على الوارث هنا ؛ لأنه ليس ذا رحم .
والحنابلة جعلوا أساس وجوب النفقة لقوله تعالى:{ وعلى الوارث مثل ذلك . . . ( 233 )} [ البقرة] ولأن الغنم بالغرم ، فإذا كان يستحق ميراثه إذا مات ، فعليه نفقته إذا احتاج ، وكان عاجزا .
هذه هي النفقة بين الأقارب ، بقي بيان الآخذ من المال الذي يباح للعاجز ، وقد ذكر سبحانه وتعالى حالين:
الأولى:{ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} ، أي بتمكين من المالك ، فإعطاؤه المفاتيح دليل على الإباحة .
الثانية:الصديق ، فهو يأخذ نفقة من مال صديقه .
وإن الأخذ في هاتين الحالتين لا يكون بإلزام قضائي ، إنما يكون بتبرع شخصي من المالك ذي الصلة الوثيقة ، سواء أكان نائبا عنه في إدارة أمواله ، أم كان صديقا بينهما خلطة تجعل المحبة بينهما مالهما مشتركا .
وقد قال تعالى في تأكيد معنى التعاون ، وشركة الأسرة:{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي تأكلون مجتمعين ، أو أشتاتا جمع شت وهو التفرق ، أي تأكلون جماعات وفرادي .
وإن ذلك مظنة الدخول في بيت من تكون النفقة منه ، والاستئذان حينئذ واجب ، ولذا قال تعالى:{ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} فالسلام هنا سلام استئذان ، وقال:{ على أنفسكم} ، أي أن بعضكم من بعض ، فهم أنتم وأنتم هم{ تحية} مصدر ، أي يحيي بهذا السلام{ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ، وكانت{ من عند الله} لأنه أمر بها ولأنها يحفها رضا الله وبركته ، وطيبه .
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} ، أي كهذا البيان الواضح المبين المرشد ، بين الله تعالى لكم الآيات المتلوة ، أي يأتي لكم بينة واضحة هادية مرشدة{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} ، أي رجاء أن تعقلوا وتدركوا ما فيه خيركم وصلاح حالكم ، وقيام جمعكم ، والرجاء من العبد ، أي أن الله تعالى قدم لكم ما يرجى به صلاح أموركم ، واجتماع على الحق والهداية والتعاون .