/م62
ثمّ بيّنت الآية التالية حكماً آخر له علاقة بتعاليم النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث تقول:( لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ) .
إن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما يدعوكم للاجتماع ،فإنه لابدّ من أن يكون لمسألة إلهية مهمّة ،لهذا يجب عليكم الاهتمام بدعوته ،والالتزام بتعاليمه ،وألاّ تهملوها ،فأمره من الله ودعوته منه سبحانه وتعالى .
ثمّ تضيف الآية ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) .
«يتسللون » مشتقّة من «تسلل » ،وتعني سحب الشيء من موضعه ،كأنّ يقال: سلّ السيف من غمده .كما يطلق على الذين يفرون سرّاً من مكان تجمع محدد لهم ،كلمة «متسللون » .
«لواذاً » مشتقّة من «ملاوذة » بمعنى الاختفاء ،وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار ،أو بتعبير آخر: استغفال الآخرين ثمّ الفرار من مكان تجمعهم ،وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما يوجه الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدعوة للجهاد أو لأمر مهم آخر ،يقول لهم القرآن المجيد: «إنّ عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإنّه لا يخفى على الله ،وسيعاقبكم على هذه الأعمال ومخالفتكم لأوامر الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الدنيا والآخرة » .
ماذا يقصد ب «فتنة » هنا ؟قال بعض المفسّرين: إنّها القتل ،وآخرون قالوا: إنّها تعني الضلال ،كما قال بعضهم: إنّها السلطان الظالم ،وقيل: إنّها بلاء النفاق الذي يتوغل في قلب الإنسان .
كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن الاجتماعية ومشاكلها ،وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع ،وابتلائه بالهزيمة ،وسائر الفتن الأخرى التي يبتلى بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده .
و على كلّ حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضمّ جميع هذه الأُمور وغيرها ،مثلما يضمّ العذاب الأليم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما .
و ممّا يجب الانتباه إليه في تفسير الآية محل البحث وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما:
الأوّل: أنّ القصد من قوله تعالى: ( لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ) أنّكم عندما تدعو النّبى( صلى الله عليه وآله وسلم ) فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته ،وليس كما تدعون بعضكم بعضاً ،والسبب يكمن في أنّ جماعة من المسلمين لم يتعلموابعدالآداب الإسلامية في التعامل مع الآخرين ،فكانوا ينادون الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعبارة: يا محمّد !وهذا لا يليق بنداء قائد إلهي كبير .وتستهدف الآية تعليم الناس أن يدعوا الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب ،كأن يدعوه: يا رسول الله ،أو: يا نبىّ الله .
وهذا التّفسير ورد في بعض الرّوايات أيضاً إلاّ أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآية التي تحدثت عن الاستجابة لدعوة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووجوب عدم الغياب عن الجماعة دون استئذان منه( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ أن نقول: إن كلا المعنيين مقصودان للآية واحدة ،وأن مفهوم الآية شامل للتفسيرين الأوّل والثّاني .
و الآخر: ويبدو أنّه ضعيف جدّاً ،وهو ألاّ تجعلوا دعاء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أحد الاشخاص ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض{[2811]} ،لأنّ دعاء ولعن النبىّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتمّ وفق حساب دقيق وخاضع للتعاليم الإلهية ،وهو نافذ حتماً .
و لكن ليس لهذا التّفسير علاقة بأوّل الآية ونهايتهاً ،ولم يرد حديث إسلامي خاصّ به ،ولهذا السبب لا يمكن قبوله .
و تجدر الإشارة إلى أنّ علماء الأُصول فسّروا عبارة ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) بأنّ أوامر الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) تدل على الوجوب ،إلاّ أنّ هذا الاستدلال فيه نواقص أشير إليها في علم الأصول .