ثم أكد الله- تعالى- وجوب التوقير والتعظيم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال:لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً....
ولأهل العلم في تفسير هذه الآية أقوال من أهمها:أن المصدر هنا وهو لفظ «دعاء» مضاف إلى مفعوله، وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أنه مدعو، فيكون المعنى:
لا تجعلوا- أيها المؤمنون- دعاءكم الرسول إذا دعوتموه، ونداءكم له إذا ما ناديتموه، كدعاء أو نداء بعضكم لبعض، وإنما عليكم إذا ما ناديتموه أن تنادوه بقولكم، يا نبي الله، أو يا رسول الله، ولا يليق بكم أن تنادوه باسمه مجردا، بأن تقولوا يا محمد.
كما أن من الواجب عليكم أن تخفضوا أصواتكم عند ندائه توقيرا واحتراما له صلّى الله عليه وسلّم والمتتبع للقرآن الكريم، يرى أن الله- تعالى- لم يناد رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم باسمه مجردا، وإنما ناداه بقوله:يا أيها المدثر، يا أيها الرسول، يا أيها النبي ...
وإذا كان اسمه صلّى الله عليه وسلّم قد ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فإن وروده لم يكن في معرض النداء، وإنما كان في غيره كما في قوله- تعالى- مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... .
فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن أن ينادوا أو يخاطبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم باسمه مجردا، كما يخاطب بعضهم بعضا.
ومن العلماء من يرى أن المصدر هنا مضاف إلى فاعله، فيكون المعنى:لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا، بل يجب عليكم متى دعاكم لأمر أن تلبوا أمره بدون تقاعس أو تباطؤ.
وعلى كلا التفسيرين فالآية الكريمة تدل على وجوب توقير الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمه.
وشبيه بها قوله- تعالى-:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ .
ثم حذر- سبحانه- المنافقين من سوء عاقبة أفعالهم فقال:قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقد هنا للتحقيق. ويتسللون من التسلل، وهو الخروج في خفاء مع تمهل وتلصص.
وقوله لِواذاً مصدر في موضع الحال أى:ملاوذين. والملاوذة معناها:الاستتار بشيء مخافة من يراك، أو هي الروغان من شيء إلى شيء على سبيل الخفاء.
أى:إن الله- تعالى- عليم بحال هؤلاء المنافقين الذين يخرجون من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلّم في خفاء واستتار:بحيث يخرجون من الجماعة قليلا قليلا، يستتر بعضهم ببعض حتى يخرجوا جميعا.
قالوا:وكان المنافقون تارة يخرجون إذا ارتقى الرسول صلّى الله عليه وسلّم المنبر. ينظرون يمينا وشمالا. ثم يخرجون واحدا واحدا. وتارة يخرجون من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلّم وتارة يفرون من الجهاد يعتذرون بالمعاذير الباطلة.
وعلى أية حال فالآية الكريمة تصور خبث نفوسهم، والتواء طباعهم، وجبن قلوبهم، أبلغ تصوير، حيث ترسم أحوالهم وهم يخرجون في خفاء متسللين، حتى لا يراهم المسلمون.
والفاء في قوله- تعالى-:فَلْيَحْذَرِ ... لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والضمير في قوله:عَنْ أَمْرِهِ يعود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إلى الله- تعالى- والمعنى واحد، لأن الرسول مبلغ عن الله- تعالى-.
والمخالفة معناها:أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله.
والمعنى:فليحذر هؤلاء المنافقون الذين يخالفون أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويصدون الناس عن دعوته. ويتباعدون عن هديه، فليحذروا من أن تصيبهم فتنة، أى:بلاء وكرب يترتب عليه افتضاح أمرهم، وانكشاف سرهم، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يستأصلهم عن آخرهم، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
قال القرطبي:وبهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب، ووجهها أن الله- تعالى- قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله:أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فتحرم مخالفته، ويجب امتثال أمره»