{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وهذا تأكيد من الله على التزام الأدب الإيماني في التعامل مع الرسول ،في ما يدعوهم إليه من قضايا ترتبط برسالته ،أو ترتبط بقيادته وولايته على المسلمين في إدارة شؤونهم العامة ،عندما يدعوهم إلى العمل الصالح ،أو ليشاورهم في أمور الحرب والسلم ،أو إلى الصلاة جامعةً ،أو إلى غير ذلك ،فعليهم أن يعتبروا الدعوة ملزمة على مستوى الواجبات الشرعية ،تماماً كما هي العبادات في ذاتها ،ولا ينظروا إلى دعوته نظرتهم إلى دعوة بعضهم بعضاً باعتبار أنها غير ملزمةٍ لهم ،لأن طبيعة علاقة القيادة بالقاعدة تختلف عن علاقة القاعدة ببعضها البعض ،لأن الأولىأي علاقة القاعدة بالقيادةتتصل بالجانب المصيري في تنظيم المجتمع من أجل سلامة خطه وتوازن موقعه ،بينما تتصل الثانية بالعلاقات الاجتماعية الخاصة التي يملك فيها كل واحدٍ حريته أمام الآخر ،بعيداً عن كل حالات الإلزام الذاتي والاجتماعي ،وعن القضايا العامة في مضمونها المصيري الذي يرقى إلى مستوى الأهمية الكبرى .
وقد جاء في بعض احتمالات التفسير للآية أن المراد به أن لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً ،أي لا تسمّوه إذا دعوتموه: يا محمد ،ولا تقولوا: يابن عبد الله ،ولكن شرّفوه وعظّموه في الدعاء وقولوا: يا رسول الله .
وذكر بعضهم أن المراد به دعاؤه عليهم لو أغضبوه ،أي: لا تتعرضوا لمواقع دعائه عليكم ،فتستهينوا به كما يستهين أحدكم بدعاء صاحبه عليه ،فإن الله لا يردّ له دعاءً .
ولكنّ الأقرب هو ما ذكرناه من الوجه الأول ،لأن سياق الآية مع الآيات التي قبلها يوحي بأنّ الجوّ هو جوّ الطاعة والانسجام مع خط قيادته في إدارة شؤون الأمة ،كما أن الفقرة التي بعدها توحي بذلك أيضاً .
فليحذر المنافقون الفتنة
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} أي ينسحبون برفق واحتيال ويلجأون إلى مكان خفيّ أو إلى أشخاص آخرين يستترون بهم ولا يستجيبون لدعوة النبي ،في عملية احتيالية إيحائية بأنهم لم يكونوا موجودين وقت الدعوة ،أو كانوا مشغولين ببعض المسائل المهمّة التي تبرر غيابهم عن الحضور إلى المجتمع الذي دعا إليه ،فإن هؤلاء ليسوا بعيدين عن نظر الله ورقابته وعلمه ،إذا كانوا يحسبون أنفسهم بعيدين عن رقابة الرسول ،لأن دعوته هي دعوة الله في ما أمره به من أداء رسالته أو القيام بشؤون قيادته .وهذه صورة من صور النفاق ،حيث يعطون للنبي وجهاً من شكليات الطاعة ،ولكنهم ينسحبون من الساحة في أوقات الشدّة ،لأنهم لا يطيقون الالتزام بالمسؤوليات العامة التي يفرضها عليهم الرسول ،ولا يريدون الانسجام الجدّي عملياً مع أجوائها .
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ويتركون الاستجابة لدعوته في ما يريده منهم ،أو في ما يكلفهم به ،{أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} وهي البلية التي قد تصيبهم في أنفسهم وفي أهلهم وأموالهم .وقد روي عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) في ذلك ،أن الله قد يسلط عليهم سلطاناً جائراً ..لأن مخالفة الرسول في السير على هدى الله في خط الشريعة يفسح المجال لاختلال المجتمع وسيطرة حكام الجور عليه ،الذين لا يرحمون عباد الله ..وقد يكون هذا مجرد نموذج تلتقي عنده المشاكل التي تصيب الناس المنحرفين عن أمر الله ونهيه ،لأن هناك أكثر من مشكلة تحدث الفتن والقلاقل والحروب ،وتربك مسيرة المجتمع الأخلاقية والاقتصادية كنتيجة لمخالفة أمر الله .
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في ما ينتظرهم من عذاب الله سبحانه في يوم القيامة ،وهذا شاهد آخر على أنّ الأقرب في تفسير قوله:{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} هو الاحتمال الأول الذي أوردناه ،لا الاحتمالان الآخران ..والله العالم .