تعظيم الرسول:
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 63 )} .
التفسير:
63 - لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ...الآية .
التسلل: الخروج من المكان تدريجيا وخفية .
اللواذ: والملاوذة: التستر ،يقال: لاذ فلان بكذا ،إذا استتر به .
يخالفون عن أمره: يعرضون عنه ويخالفونه .
فتنة: بلاء وامتحان في الدنيا ،أو عذاب أليم في الآخرة .
في معنى هذه الجملة ثلاثة وجوه:
الأول: لا تجعلوا أمر الرسول إياكم ،ودعاءه لكم ،كما يكون من بعضكم لبعض ،أي: إن دعاء الرسول ونداءه لكم ،له أهمية ليست لدعاء غيره ،فإذا دعاكم غيره فلكم أن تجيبوه أو لا تجيبوه ،وأما إذا دعاكم الرسول ولم تجيبوه ؛فإنكم توقعون أنفسكم في الحرج ،وإن ذلك مما يتهدد إيمانكم ،وينذركم بحبط أعمالكم .
الثاني: ألا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا ،فلا تقولوا له: يا محمد .ولا تقولوا: يا بن عبد الله .ولكن شرفوه وعظموه في الدعاء ،فقولوا: يا رسول الله ،أو يا نبي الله .
الثالث: ألا تعتقدوا أن دعاء الرسول على إنسان كدعاء غيره ،فإن دعاء الرسول مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم إذا عملتم ما يسخطه .
وقد رجح ابن كثير المعنى الثاني ،واستشهد له بجملة من الآثار ،منها ما يأتي:
قال ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد ،يا أبا القاسم ،فنهاهم الله – عز وجل – عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ،وأمرهم أن يقولوا: يا نبي الله ،يا رسول الله .
وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه وأن يبجل وأن يعظم .
وقال مقاتل: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ...يقول: لا تسموه إذا دعوتموه: يا محمد ،ولا تقولوا: يا بن عبد الله ،ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله ،يا رسول الله ،وهذا كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .( الحجرات: 2 ) .فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكلام معه وعنده .كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته260 .
وإذا ضممنا آخر الآية إلى صدرها ترجح لنا أن المراد هو المعنى الأول .أي: إذا دعاكم الرسول فلا تهملوا دعوته ،واستجيبوا لأمره .
ومن إعجاز القرآن: أن الآية تشير إلى معنى ،وتحتمل معنى ،وتستتبع معنى .
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ...
قال القرطبي:
التسلل والانسلال: الخروج ،واللواذ من الملاوذة: وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك ،فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة ( لواذا ) – مصدر في موضع الحال ،أي: متلاوذين –أي: يلوذ بعضهم ببعض ،ينضم إليه استتارا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة .
وقيل: كانوا يتسللون في الجهاد ،رجوعا عنه ،يلوذ بعضهم ببعض .
وقال الحسن: لواذا .فرارا من الجهاد .ومنه قول حسان:
وقريش تلوذ منا لوذا *** لم يقيموا وخف منها الحلوم261
وروى أبو داود: أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد ،فإذا استأذن أحد من المسلمين ؛قام المنافق إلى جنبه يستتر به ،فأنزل الله الآية:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ...
أي: يعرضون عن أمره .
وقال أبو عبيدة الأخفش: عن .في هذا الموضع زائدة262 .
والآية تحذر من يخالف أمر الرسول ،أو يتهرب من دعوته ولا يلبي أمره ،بأن تصيبه الفتنة أو العذاب الأليم .وبهذه الآية قد احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب ،ووجهها أن الله – تبارك وتعالى – قد حذر من مخالفة أمره ،وتوعد بالعقاب عليها بقوله: أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .فتحرم مخالفته ويجب امتثال أمره263 .
والفتنة هنا: القتل ،قاله ابن عباس ،وقال عطاء: الزلازل والأهوال ،وقال جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطان جائر .أي: إن المسلمين إن أعرضوا عن أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخالفوها ،فإن الله سيسلط عليهم من الحكام من لا يرحمهم ،وعلى كل حال فهذه إحدى صور الفتنة ،كما يمكن أن تكون لها صور كثيرة أخرى ،كتفرق كلمة المسلمين ،ونشوب الحرب الداخلية بينهم ،وانحطاطهم الخلقي ،وتشتت جماعتهم ،وظهور الفوضى فيهم ،وانكسار قوتهم السياسية والمادية ،وتحكم غيرهم في رقابهم264 .