{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} .
لأهل العلم في هذه الآية أقوال ،راجعة إلى قولين:
أحدهما: أن المصدر الذي هو:{دُعَاء} مضاف إلى مفعوله ،وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ،وعلى هذا فالرسول مدعو .
الثاني: أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله ،وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ،وعلى هذا: فالرسول داع .
وإيضاح معنى قول من قال: إن المصدر مضاف إلى مفعوله ،أن المعنى: لا تجعلوا دعاءكم إلى الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضًا ،فلا تقولوا له: يا محمّد مصرّحين باسمه ،ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض ،بل قولوا له: يا نبيّ اللَّه ،يا رسول اللَّه ،مع خفض الصوت احترامًا له صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول هو الذي تشهد له آيات من كتاب اللَّه تعالى ؛كقوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [ الحجرات: 2-3] الآية ،وقوله تعالى:{إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [ الحجرات: 4-5] ،وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعِنَا} [ البقرة: 104] الآية ،وهذا القول في الآية مرويّ عن سعيد بن جبير ،ومجاهد ،وقتادة ؛كما ذكره عنهم القرطبي ،وذكره ابن كثير عن الضحاك ،عن ابن عباس ،وذكره أيضًا عن سعيد بن جبير ،ومجاهد ،ومقاتل ،ونقله أيضًا عن مالك ،عن زيد بن أسلم ،ثم قال: إن هذا القول هو الظاهر ،واستدلّ له بالآيات التي ذكرنا .
وأمّا على القول الثاني: وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله ،ففي المعنى وجهان:
الأول: ما ذكره الزمخشري في «الكشاف » ،قال: إذا احتاج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلا بإذنه ،ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا ،ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي .
والوجه الثاني: هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره ،قال: والقول الثاني في ذلك أن المعنى في{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} ،أي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ،فإن دعاءه مستجاب ،فاحذروا أن يدعو عليكم ،فتهلكوا .حكاه ابن أبي حاتم ،عن ابن عباس ،والحسن البصري ،وعطية العوفي ،واللَّه أعلم .انتهى كلام ابن كثير .
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له: هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن ؛لأن قوله تعالى:{كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} يدلّ على خلافه ،ولو أراد دعاء بعضهم على بعض ،لقال: لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض ،فدعاء بعضهم بعضًا ،ودعاء بعضهم على بعض متغايران ،كما لا يخفى .والظاهر أن قوله:{لاَّ تَجْعَلُواْ} من جعل التي بمعنى اعتقد ،كما ذكرنا عن ابن كثير آنفًا .
قوله تعالى{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ 63] .
الضمير في قوله:{عَنْ أَمْرِهِ} راجع إلى الرسول ،أو إلى اللَّه والمعنى واحد ؛لأن الأمر من اللَّه والرسول مبلغ عنه ،والعرب تقول: خالف أمره وخالف عن أمره: وقال بعضهم:{يُخَالِفُونَ}: مضمن معنى يصدّون ،أي: يصدّون عن أمره .
وهذه الآية الكريمة قد استدلّ بها الأصوليّون على أن الأمر المجرّد عن القرائن يقتضي الوجوب ؛لأنه جلّ وعلا توعّد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم ،وحذّرهم من مخالفة الأمر .وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ،ما لم يصرف عنه صارف ،لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير .
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ،دلّت عليه آيات أُخر من كتاب اللَّه ؛كقوله تعالى:{وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ} [ المرسلات: 48] ،فإن قوله:{ارْكَعُواْ} أمر مطلق ،وذمّه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله:{لاَ يَرْكَعُونَ} يدلّ على أن امتثاله واجب .وكقوله تعالى لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [ الأعراف: 12] ،فإنكاره تعالى على إبليس موبخًا له بقوله:{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يدلّ على أنه تارك واجبًا .وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق ،وهو قوله تعالى:{اسْجُدُواْ لآدَمَ} [ البقرة: 34] ،وكقوله تعالى عن موسى:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [ طه: 93] ،فسمّى مخالفة الأمر معصية ،وأمره المذكور مطلق ،وهو قوله:{اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [ الأعراف: 142] ،وكقوله تعالى:{لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ التحريم: 6] ،وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدلّ على أن مخالفه عاص ،ولا يكون عاصيًا إلا بترك واجب ،أو ارتكاب محرم ؛وكقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [ الأحزاب: 36] ،فإنه يدلّ على أن أمر اللَّه ،وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال ،وذلك يدلّ على اقتضائه الوجوب ،كما ترى .وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده:{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب: 36] .
واعلم أن اللغة تدلّ على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ،بدليل أن السيّد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلاً ،ولم يمتثل العبد أمر سيّده فعاقبه السيّد ،فليس للعبد أن يقول: عقابك لي ظلم ؛لأن صيغة الأمر في قولك: اسقني ماء لم توجب عليّ الامتثال ،فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني ،بل يُفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه ،وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه ،والفتنة في قوله:{أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ،قيل: هي القتل ،وهو مروي عن ابن عباس .وقيل: الزلازل والأهوال ،وهو مروي عن عطاء .وقيل: السلطان الجائر ،وهو مروي عن جعفر بن محمّد .قال بعضهم: هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم .وقال بعض العلماء:{فِتْنَةً} محنة في الدنيا{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة .
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له: قد دلّ استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان:
الأول: أن يراد بها الإحراق بالنار ؛كقوله تعالى:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [ الذاريات: 13] ،وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [ البروج: 10] الآية ،أي: أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك .
الثاني: وهو أشهرها إطلاق الفتنة على الاختبار ؛كقوله تعالى:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [ الأنبياء: 35] الآية ،وقوله تعالى:{وألَوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [ الجن: 16-17] .
والثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيّئة ؛كقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ} [ البقرة: 193] .وفي «الأنفال »:{وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [ الأنفال: 39] ،فقوله:{حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [ البقرة: 193] ،أي: حتى لا يبقى شرك على أصحّ التفسيرين ،ويدلّ على صحّته قوله بعده:{وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ}[ البقرة: 193] ؛لأن الدين لا يكون كلّه للَّه حتى لا يبقى شرك كما ترى .ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللَّه » ،كما لا يخفى .
والرابع: إطلاق الفتنة على الحجّة في قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [ الأنعام: 23] ،أي: لم تكن حجّتهم ،كما قال به بعض أهل العلم .
والأظهر عندي: أن الفتنة في قوله هنا:{أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ،أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة .
وأن معناه أن يفتنهم اللَّه ،أي: يزيدهم ضلالاً بسبب مخالفتهم عن أمره ،وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا المعنى تدلّ عليه آيات كثيرة من كتاب اللَّه تعالى ؛كقوله جلّ وعلا:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [ المطففين: 14] ،وقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [ الصف: 5] ،وقوله تعالى:{في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [ البقرة: 10] الآية ،وقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [ التوبة: 125] الآية ،والآيات بمثل ذلك كثيرة ،والعلم عند اللَّه تعالى .